رأي

سعيد يقطين: الرقامة التربوية

وردت إليّ منذ 5 أكتوبر عدة رسائل نصية وصور تحتفي باليوم العالمي للمعلم، وهي تتحدث عن دوره في تربية الأجيال، وعن التبجيل الذي يستحقه، حتى أنه كاد أن يكون رسولا، وما شابه هذا من العبارات التمجيدية التي كان يستحقها فعلا وقولا.
لا أحد يجادل في دور المعلم في التاريخ، فأرسطو اعتبر المعلم الأول، وما يزال الباحثون ينهلون من منابعه إلى الآن، ويناقشون أفكاره. ويمكن قول الشيء نفسه عن المعلم الثاني، الفارابي الذي لا تربطنا به أي صلة وجدانية كانت أو معرفية؟ تقابل صورة المعلم الإيجابية صوره السلبية، التي تحدث عنها الجاحظ، أو ترصدها لنا بعض الروايات الحديثة والمعاصرة في زمن التحولات الكبرى.
كان المعلم فعلا صاحب رسالة لأنه كان يتميز بثلاث خصال تجعله أهلا للتقدير والاحترام: سلطة وهيبة يستمدهما من معرفته الواسعة، وأخلاقه السامية، ومنهجيته التربوية في التلقين وتوصيل المعلومات. وحين فقد كل هذه المقومات أصبح موظفا يقدم خدعا للنجاح، ووصفات تحصيل أعلى الدرجات. ولعبت السياسات التعليمية المتعاقبة في سلب سلطته، وتجريده من شخصيته حتى صار أضحوكة، وموضوعا لتلقي الركلات واللعنات من تلامذته. تغيرت القيم، وصارت المدرسة عبئا على الدولة وعلى الأسرة، وأعطي التعليم الخاص مكانة التعليم العمومي، الذي كون الأجيال، فصار البيع والشراء في كل شيء: في المعلم، وفي المقررات، وفي النجاحات. بدأت تتقلص الوراقات التي كانت تبيع الكتب والأدوات المدرسية، وبدأت تحل محلها مكاتب النسخ، والطبع الإلكتروني، ومن بين وظائفها إنجاز بحوث التلاميذ وفروضه المنزلية، وكتابة رسائل وأطاريح طلبات الجامعة. فعن أي معلم نتحدث؟
كان المعلم يربي أولا، ويعلم ثانيا. لكنه صار حارسا للتلاميذ في قاعة، كي لا يحدث الشغب في انتظار متى يدق الجرس. وفي الحصة يتقدم الدرس وفق سلسلة من الإجراءات التي تدعو إلى الكسل لا التفكير، وإلى التلقين بدل الحوار. صار التلميذ والطالب يقيمان حسب النقاط والعلامات التي حصلا عليها، لا تبعا لمستواهما المعرفي والإدراكي، وقدرتهما على النقد والتفكير. وأغلب أصحاب العلامات العالية هم من يتحملون وزر وصول طلبة إلى درجة الدكتوراه، وهم لا يميزون بين اسم كان وخبر إن؟ يتحمل الجميع المآل الذي آلت إليه المدرسة والجامعة.
تتحدد علاقة التكنولوجيا الجديدة بالتربية من خلال ثلاثة مستويات: التعلم من خلال التكنولوجيا، وتعلم كيفية استخدامها، وتعلم ما يتعلق بالتكنولوجيا.
وإذا كان العالم المعاصر يحتفي بيوم عالمي للمعلم في عصر جديد، من المعلم الذي يجب أن نحتفي به؟ هل المعلم الذي كان؟ أم المعلم الذي لم يكن، والذي لا نحلم بوجوده؟ إذا لم تكن الأيام العالمية المختلفة للتفكير وللتخطيط لما يمكن أن يكون عليه المستقبل فهي مناسبات للتهريج. وإذا لم تكن وقفات للنقد الذاتي وللوقوف على الإكراهات من أجل تجاوزها، والعراقيل لتحديها فهي احتفالات لتمجيد الرداءة.
فرض العصر الرقمي صورا جديدة للمعلم وللمدرسة، سيقول كثيرون إننا ما نزال نعاني من أمية القراءة والكتابة، وما تزال مدارسنا في بعض القرى بلا طاولات، ولا سبورات خشبية، وتطول اللائحة وهي تتصل بالبنيات التحتية، والأطر، والتسيير والتدبير. إذا لم نناقش كل هذه القضايا متصلة بما يفرضه العصر الرقمي، وما يتطلبه من تجديد للرؤى والتصورات، لن نحل المشاكل التاريخية، ولن نفكر في أسئلة العصر الحديث، وما يستدعيه المستقبل. إن المعلم الذي يجب أن نحتفي به هو معلم المستقبل الذي ينبغي أن نوفر له الشروط الذاتية والموضوعية، ليكون متلائما مع الفضاء الذي يشتغل فيه، ومع الأدوار المنوطة به هنا والآن وغدا. إنها مهمة رجال التربية، والباحثين في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية واللغات والآداب، إلى جانب المشتغلين بالمعلوميات والمسؤولين عن قطاع التربية والتعليم.
إن ما نسميه الرِّقامة التربوية، باعتبارها اختصاصا جديدا، هو مدخل إعادة النظر في المعلم والمدرسة والجامعة، لقد انتهت وظيفة المعلم التقليدية القائمة على توصيل المعلومات، وملء الدفاتر بالإملاءات التي يجب أن تنسخ في أوراق الامتحان. لقد صار التفاعل الذي انبثق عن توظيف الوسائط المتفاعلة أساس العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبدونه لا يمكننا تكوين الإنسان الجديد القادر على التفاعل مع العصر، وما يفرضه من متطلبات جديدة. لقد صارت التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل واقعا لا مندوحة عنه، لأي كان من التعامل مع منجزاتها في حياته اليومية والعملية والعلمية، وأيا كان مستواه الاجتماعي والثقافي. فرضت هذه التكنولوجيا ضرورة بروز اختصاصات جديدة مست كل مجالات الحياة، وفي كل القطاعات، ومن بينها الرقامة. إن الرقامة التربوية بمعناها العام صارت تملأ الآن وظيفة التربية التي كانت في المجتمعات الشفاهية، بما هي نقل للخبرات إلى الأجيال، ووظيفة الثقافة في المجتمعات الطباعية بصفتها نقلا للفرد ليكون فاعلا في المجتمع.
تتحدد علاقة التكنولوجيا الجديدة بالتربية من خلال ثلاثة مستويات: التعلم من خلال التكنولوجيا، وتعلم كيفية استخدامها، وتعلم ما يتعلق بالتكنولوجيا. تتضافر هذه المستويات، وكل منها يمكن أن يكون موضوعا لاختصاص محدد يضع أسسها وقواعدها وإجراءاتها. لقد صار التعلم من خلال التكنولوجيا متاحا للجميع، وبلا حاجة إلى المعلم، لكن تعلم الاستعمال يستدعي الرقامة التي ترتكز على المعلم الجديد.