قضايا

ظاهرة التدين بين الوهج والأفول

محمد إكيج

شهدت بلادنا كباقي البلدان العربية والإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى حدود بداية الألفية الثالثة تناميا كبيرا على مستوى التدين الفردي والجماعي سمي بالصحوة الإسلامية؛ وبرز ذلك بالخصوص في أوساط الشباب وطلاب الجامعات، حيث كانت تعرف الأنشطة الطلابية للفصائل الإسلامية إشعاعا كبيرا بل وكانت تنتقل أصداؤها إلى خارج أسوار الجامعات في البيوت والأحياء السكنية وفي الجمعيات الثقافية والاجتماعية، كما عرفت المرحلة ذاتها رواجا كبيرا في سوق المبيعات الإسلامية: (أشرطة دعوية – أناشيد – كتب إسلامية – أقمصة - جلابيب...)، إلا أن هذه الصحوة التدينية ومنذ مطلع الألفية الثالثة أصبحت تعرف انحسارا متدرجا إن لم نقل أفولا تاما في صفوف الشريحة المجتمعية نفسها (أي الشباب)، ومظاهر ذلك كثيرة أبرزها تنامي ظاهرة الرفض لقيم المحافظة والانقلاب عليها تحت عناوين اللامبالاة والميوعة السلوكية في صفوف هذه الفئة، بل وأكثر من هذا تنامي ظاهرة الإلحاد واعتناق مبادئ وأفكار موغلة في التطرف اللاديني (ظاهرة عبدة الشيطان مثلا). ولعل ذلك يرجع إلى جملة عوامل فكرية ومجتمعية وسياسية مؤثرة في ظاهرة التدين عموما، وتدين الشباب على وجه الخصوص، ومنها:

- أفول الأيديولوجيا اليسارية، بسبب عوامل ذاتية كامنة في تلك الأيديولوجيا، ولكن أيضا بسبب التيار الإسلامي الذي ساهم بنصيب وافر في تراجعها، حيث جعل أساس مبعثه ونمو شوكته مناصبة العداء لهذه الأيديولوجيا، وتنفير المجتمع من أفكارها... الشيء الذي جعل معظم الشباب العربي والمسلم يُعْـرض عن كل التيارات الأيديولوجية التي تُعلي من شأن المعرفة العلمية والتفكير العقلاني النقدي... ويستعيض عنها بتوجهات التيارات العبثية التي تؤجج الشهوات الجنسية وتعلي من شأن المطالب النفعية والمادية الاستهلاكية المحضة...

- وصول بعض التنظيمات السياسية باسم المرجعية الاسلامية إلى مراكز القرار وتدبير الشأن العام وفشلها في محاربة الفساد وتحقيق التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية للمواطنين، مما أفقد الناس الثقة في الشعارات الدينية التي كانت ترفعها تلك التنظيمات مشرقا ومغربا.

- ظهور تيار التطرف العنيف في ثوب "الجهاد المقدس" وباسم "السلفية الجهادية"، وما صاحب ذلك من تشويه فظيع لصورة الدين الإسلامي السمح بسبب الجرائم الفظيعة التي ارتكبها أتباع داعش والقاعدة في كثير من البلدان العربية والإسلامية... الشيء الذي زاد من قتامة صورة التدين ونفور الناس من كل ما له صلة به.

- الانحرافات الصادمة التي وقع فيها كثير من المتدينين المظهريين –ممن يسمون أنفسهم بالسلفيين- على مستوى المعاملات المالية والتجارية والأسرية والإدارية... علما أن هذا الصنف من المتدينين كان يُقَدّم نفسه للمجتمع المغربي على أنه "يمثل الدين وينطق باسمه" وأن غايته هو إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل شؤون الحياة!! وأن معاملاته "صافية ونقية ولا تشوبها شبهات"، وأنه "في منأى عن السقوط في انحرافات باقي أفراد المجتمع "غير الملتزمين"... إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك تماما، مما أربك معاني "النموذج" و"القدوة" و"المثال" لدى الشباب، حيث بات ينظر لجميع الشرائح المجتمعية –متدينة أو غير متدينة -على أنها تتشابه في معاملاتها وإن اختلفت في مظاهرها، أو بتعبيرهم الدارج "كلشي بْحال بْحال" و"كلشي مَسْقي بمغرفة واحدة"!!

- استيعاب العديد من الوجوه الدعوية في مؤسسات الحقل الديني الرسمي (منابر خطبة الجمعة والوعظ والإرشاد – مجالس علمية – مؤسسات بحثية – دواوين وزارية...)، مما أذْهب عن تلك الوجوه بريقها وإشعاعها المجتمعي وقدرتها على التأثير الجماهيري الواسع خاصة في أوساط الشريحة الشابة، بسبب "اتهامها" بالانحياز للخطاب الديني الرسمي وعدم خوضها في القضايا الحساسة التي تهم المجتمع؛ بل إن البعض من تلك الوجوه وقعت في منزلقات أخلاقية فاضحة ومواقف سياسية مخزية أساءت لذاتها وجيّرت عموم الذوات الأخرى، الشيء الذي أسقط مكانتها الرمزية وتأثيرها العاطفي لدى عموم المسلمين.

- طفرة المعلوميات الهائلة خاصة على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أتاحت هذه الطفرة انفتاحا عظيما على كل الثقافات والأفكار والأذواق والمذاهب والنظريات العلمية وغير العلمية وكل التيارات الفكرية والسلوكية العابرة للقارات والمحيطات دون حسيب ولا رقيب ولا غربلة لما فيها من جدية أو تناقض أو حيرة أو تشكيك أو تفاهة...، الشيء الذي جعل الشاب المسلم –وفي غياب أو ضعف التأطير والتوجيه التربوي والمعرفي المُحَصّن- يتعاطى بعفوية واعتباطية ودون ممانعة أو تمحيص لكل ما تقذف به تلك الآلة، وإن كان يستهدف القيم والأخلاق بل وحتى أساسيات الدين.

إن هذه العوامل الذاتية والموضوعية المحيطة بظاهرة التدين الجماعية أو الفردية والمؤثرة فيها صعودا أو نزولا، تدل على أن خط التدين لا يسير دائما في منحى تصاعدي، ولكنه يتحرك بشكل تموّجي في إطار ما يمكن أن نسميه بدورات التدين التي تتبدل وتتغير ولا تستقر على حال واحدة... وأن هذه الدورات لا تعبر عن الدين ولا عن جوهره ومكنونه؛ لأن الدين مثال وكمال وجمال وبهاء ونماء وصفاء... أما التدين -في جميع العصور وعند جميع البشر -عدا الرسل والأنبياء- فهو محاولة لتمثل المثال، وسعي لبلوغ الكمال والجمال، ومحاولات للاتصاف بالبهاء وتحقيق النماء والصفاء... وقد يكون ذلك التّمثُّل مصحوبا بشيء من التوفيق أحيانا وشيء من التقصير أو النكوص أحيانا أخرى، أو شيء من الاندفاع والغلو أحايين أخرى... وعليه لا ينبغي –بأي حال من الأحوال- محاكمة أو تقييم الدين بسبب تدينات نسبية صادرة عن البشر..