قضايا

صناعة الرداءة

عبد الحق مفيد

وأنا أسمع لإحدى "الأغاني "في برنامج على أمواج إحدى الإذاعات الوطنية وجدتني أقول بصوت عال "هذا غير ممكن!" وأكرر العبارة نفسها مرات عديدة، والسبب في ذلك مستوى الكلمات السمج والذي لا يحتاج من كتبه إلى أي مجهود يذكر من قبيل وقفت، جلست، رأيت، غمزت، مشيت.. من لغة دارجة تمتح من الشارع الضارب في الرعونة وسوء الذوق والفوضى وقلة الحياء. أما اللحن ففيه كثير من الجهل بأبسط الجمل الموسيقية مع موسيقى رعناء تسبب توترا في الأعصاب وضجيجا في الرأس.

ووجدتني أتساءل كيف تسللت هذه الأغنية ومثيلاتها للإذاعة؟ وكيف بدأ التطبيع مع هذا النوع من الضجيج؟ في إذاعة وطنية تحتاج الدولة في كل مرة إلى ضخ جزء من مالنا العام لإنقاذها من الإفلاس؟ هل يتصور المشرفون عليها أنه بفتح الباب على مصراعيه أمام الرديء الرائج سيجلبون مستمعين أكثر وسلة من الإشهار أكبر؟ هل هذا هو كل ما يهم؟

ألا نستحيي الآن من ترديد أطفالنا كلمات أغنيات تسللت إلى قاموسهم اللغوي في غفلة منا وفي تواطؤ فاضح مع مؤسسات إعلامية. كان من المفروض أن تكون مؤسسات لتهذيب الذوق العام ووسيطا للتنشئة الاجتماعية والتربية الجمالية؟

قد يقول قائل إن الواقعية تفترض الانسياق مع ما هو مطلوب ورائج. وسوف نتساءل بدورنا هل هناك حدود لما هو مطلوب؟ وكيف سيكون الحال لو انسقنا لكل ما طلب منا؟ تم ماذا لو انجررنا أمام مطالب معتوهين ومرضى نفسيين بدعوى الانفتاح على ما يطلبه الجمهور؟

إن دروس التاريخ يا سادة تعلمنا أن الغوغاء لا تصنع فكرا ولا فنا ولا أفقا ولو استقوت بديماغوجيين يزينون لها صنيعها، إنها القوة الضاربة نحو الخراب وتدمير ما بني على أسس. ومن يعتقد أن تخريب الذوق العام سيجني منه منفعة فهو واهم فتلك محرقة سوف تلتهم الجميع.

لقد أصبح للرداءة مناصرون وأتباع ومريدون. وكم كانت مفاجئتي كبيرة وانا منزو في أركان أحد المقاهي وأنا أتابع شجارا نشب بين زبونين حول شرعية هدف سجله فريق لكرة القدم على فريق آخر. وقد تطور الأمر إلى سب وقذف وتشابك بالأيدي وتخريب لملك الغير والتعرض للأصول بالكلام النابي من أجل فريقين كرويين لا يوجدان في قارتنا ولا يتحدثون لغتنا ولا يعلمون حتى بوجود هذا المقهى على الخريطة أو بزبونيه اللذين نشب بينهما ما نشب، أما المذيع فبصراخه الهستيري فكل واحد من الجمهور المتبلد كان يعتقد أنه نصيره في المعركة الواقعة رحاها على الشاشة.

إن المراهنة على تسطيح الأمور وتنميطها وخلق قضايا جانبية ووهمية ومراوغة الواقع وتخريب الذوق العام من أجل توجيهه والسيطرة عليه ستكون له آثار جانبية يصعب التحكم فيها وما الأحداث التي تصل في أحيان كثيرة للضرب والجرح وحتى القتل بين مشجعي فريقين لكرة القدم الا أحد تجليات ذلك. وخاطئ من يعتقد أن الأمور ستقف عند هذا الحد.

إننا لا نوجه أصابع الاتهام لأحد ولسنا من مناصري نظرية المؤامرة إذ أن كثيرا من الأمور أصبح من الصعب التحكم فيها في ظل عالم معولم ومتسارع الأحداث. إلا أن مصير الشعوب وفي أحلك الفترات يبقى بين أيديهم.. لقد آمن الوطنيون باستقلال المغرب وحرروا وثيقة للمطالبة بذلك ما زالت شاهدة في إباء، في الوقت الذي كان فيه بعض الأئمة يعتلون المنابر ويقولون بقدرية الاستعمار وبأن الله هو من اختار الفرنسيين ليحكموا المغرب وأن من يعترض على ذلك فهو يكفر بقضائه وقدره..

فهل سيقدر لنا ونحن في مغرب اليوم أن نجد فئة من الكافرين بالرداءة والذين إن لم يستطيعوا محاربتها بأن يولوا وجوههم عنها بإسكات صوت المذياع؟ هذا هو ما فعلت مع ذلك الضجيج الذي سماه المذيع في تنطع ورعونة "أغنية"، وذلكم لعمري أضعف الإيمان.

*كاتب