تحليل

الشتيمة

عبد الحيكم برنوص

يتعاير الناس ويشتم بعضهم بعضا، ويقذعون في السب والقدح، ويأخذون من اللغة ما هو متاح وغير متاح، فيستلّون من المعاجم (معاجم الجنس والنسب والعِرض) ويأخذون منها "رماناتهم" المتفجرة، يفجرونها في وجه الخصم، بغية التنكيل به وتمريغ كرامته، وتذكيره بأصله الحيواني، وأنه فرّ لتوه من حظيرة الدواب، وعليه أن يعود إليها سريعا.
لذلك إذا أعياهم الأمر، أو رغبوا في الغلب والغلبة وإفحام المخاطب، وجعله يتصبب خجلا أمام نفسه وأمام المتفرجين (وما أكثرهم) عرجوا على التنابز بأسماء الحيوانات، يشبهون بها خصيمهم، بُغية إنزاله إلى درك هذه الكائنات، التي لا تعلم أن بني البشر تأخذ منها خيرها، ثم تأنف من التشبه بها (إلا فيما ندر، كحال التشبه بالغزال أو الأسد، لكن لا مسنٍّ ولا أجرب).
في هذه الوغى اللفظي (يستعان أيضا بحركات بالأيدي، بالنسبة إلى ذوي السوابق والمحترفين) يُقرن غالبا الذَّكَر "بالحمار" أو "بالخنزير"، وتوضع الأنثى و"الأفعى" في الجحر نفسه.
هذا تشبيه بعيد لا يستقيم، هذا أيضا تمثيل صغير لقاموس هائل من الألقاب والسباب التي تروم قلع المشتوم من مملكة البشر والهوي به إلى حظيرة الحيوانات.
الكائنات التي يسميها بنو البشر حيوانات لا تفتأ تؤدي دورها المراد لها، فهي مبرمجة وفق هذا الدور لا تحيد عنه، فلا يتصور عاقلٌ كائنا دقيقا مثل برغوث يحقن الدماء، عوض أن يمصّها، أو أسدا يعفو عن فريسته، ويتركها تنجو بسلام. هذا ثان مرفوع، فالأسد يفترس وإلا ليس أسدا، والخنزير يعيث إفسادا وإلا لن يكون كذلك.
عندما ينزاح الإنسان، بما هو كائن عاقل مسؤول عن دوره الوجودي الذي خُلق له، وعندما يلقي جانبا بفسيلة الإصلاح، ويعيث إفسادا في النسل والحرث، أضعاف ما تفعله الحلاليف، آنذاك ينزل هذا المدعو "إنسانا" إلى الدركات السفلى ويسقط سقوطا حرا من تجمعات البشر وحظائر الحيوانات. فالإنسان الفاسد المُفسد هو الكائن الوحيد الذي يجعل من نفسه وبإرادته، كائنا غشاشا أو مرتشيا أو شاهد زور أو متواطئا أو خوّانا أو غاصبا أو قاتلا، والكائنات التي نتبادل بأسمائها اللمز والهمز قطعا لا تعرف هذه المثالب.
عندما يهوي هذا الحمئِي إلى هذه الدركات الغابرة (ما دون الحيوانات طبعا) حينئذ يكون جديرا أن تُلصق به صفة واحدة، حينها يكون قرينا للشيطان، والقرين بالمقارن يقتدي. عندما يفرق بين المرء وزوجه، وعندما يفسد على الناس دنياهم، ويأتي بما تشيب له الولدان. آنذاك يتحول إلى شيطان من شياطين الأرض، وكثير ما هم.
أيوجد في الثعالب كلها واحد ماكر، واحد فقط، يُزين للناس الوهم من أجل منصب حقير، أو "حيوان" ذي كرش كبير مملوء سحتا وعرق الناس، أو آخر ينفث في العقد ليفرق بين المرء وزوجه وعقله، وحدها الشياطين تفعل ذلك، طبعا شياطين الإنس، وانظروا إلى الفظائع المرتكبة على مر التاريخ، وهذا الفساد الذي ملأ البر والبحر، وحدها الشياطين تفعل ذلك، طبعا شياطين الإنس. لذلك سيصبح من السخف التشبيه بالحيوانات عند النزال اللغوي حال القذف والهجو.
فأعيدوا النظر في شتائمكم، إنْ لم يكن منها بدّ.