رأي

محمد بودويك: بين المتنورين والناطقين باسم السماء!

إن الشرائع ألقَت بيننا إِحَنَاً ** وعلمتنا أفانينَ العداوات أبو العلاء المعري

من المؤكد المقطوع به أن المثقف الحر في المجتمعات العربية– الإسلامية، يعاني المعاناة الشديدة، ويكابد المكابدة الشاقة، ويستشعر التمزق الرهيب الذي يعيشه، وهو يرى ما يدمي القلب، ويقذي العين، ويشوش الخاطر والعقل، ويملأ الوجدان أسى وحسرة. وما ذلك إلا لأنه يصيح في برية جديبة، وصحراء مترامية، وواد ذي قعر سحيق، وتجويف عريض عميق، يردد الصدى تلو الصدى، فيتلاشى.. وينمحي، ويموت.

يعرف المثقف والمفكر العربي – المسلم الحر الذي يتكيء على الحس ركنا، والعقل مصباحا هاديا، والنقد آلة للقراءة والاستبار، والفحص، والتمحيص، أنه وحيد وإن تعدد، فعدده لا يشكل إلا نسبة ضئيلة جدا على سُلم الساكنة العرمرم، والعنصر البشري المتلاطم كالموج، إذ مقدار وجوده ككيان، ومعطى واقعي محسوس وملموس، لا يربو- في أحسن الأحوال، على واحد إلى اثنين في المئة من مجموع السكان، وجملة المواطنين الذين يتقاسم معهم الأرض، ويشاطرهم الجغرافيا والتاريخ، ومقومات أخرى هي ما يصنعه ويصنعهم.

وبعبارة أوضح، ففكر وأطاريح المثقف الحر في وضع اجتماعي مؤطر بالدين، ومدجج بالفُتْيا التي يطلقها "علماء" متعالمون، و"فقهاء" ليس لهم من الفقه إلا الموروث البالي، والحاصل البائت، والمكرور المنمط، والواصل الفاني. حيث يتم طمر "المقاصد"، و"المصالح"، "والأولويات" الإنسانية، وإظهار –بالمقابل- النص، والقطع، والحكم المختوم، والكلام المطلق، والرأي المتواتر الأبدي والأزلي.

أطاريح وفكر المثقف –إذًا- في مثل الوضع المذكور، منبوذ ومرذول، وملغى، ومقصي من الكثرة الكاثرة من مواطنيه. من هنا غُرْبته، وتمزقه، وقلقه الوجودي الأنطولوجي، وخوفه من أن يطول الأمد بهذا الإغفاء والإغضاء والإلغاء، والإشاحة عن فكره، وثاقب نظره، ورؤيته التي ترنو إلى الغد، إلى الآتي والمستقبل، والانتماء إلى منطق العصر، وجوهر تحولاته وانقلاباته الفكرية، والعلمية، والتكنولوجية والفنية. نعم، للتاريخ، ولسياسات الحكم العربي يد في ما حدث، يد في هذا الذي يستمر مؤبدا أو يكاد، للفكر الخرافي، والتصور العقدي المضاد للتطور، والطرح الفقهي المتجاوز، والمُتَخَطَّى، وهو الطرح المخادع، المخاتل، الذي يجد مرتعا له في واقع المسلمين، هنا والآن، وفي بلدنا كما في بلدان عربية - إسلامية أخرى، فقه وتعالم مخادع وعنيد لأنه يضع غشاوة على بصره ونظره وبصيرته، وَوَقْرًا في أذنه وسمعه، معتبرا أن الخروج من ظلمات الجهل والتخلف التاريخي، رَهْنٌ بإحياء وإعمال القرآن والسنة، بما هما مصدران مطلقان أوتيا الإحاطة الشاملة، وحويا علوم الأولين، والآخرين، واخترقا الأزمنة، والأمكنة في الماضي، والحاضر والمستقبل، مستدلا بقوله سبحانه: "ما فَرَّطْنا في الكتاب من شيء" [الأنعام: 38)، علما أن منطوق ودلالة الآية الكريمة واضح تمام الوضوح، إذ لا يخرج عن معنى شؤون الدين والعبادة والتعبد.

فالباحث في القرآن وَاجِدٌ – لا محالة- ما يُشْفي ويُغْني ويَفِيضُ في أمور العبادة والأخلاق، والفضل، والصلاح، والدين، والتدين.

تمزق المثقف المسلم الحر نابع مما أشرنا إليه: من قلته العددية في مجتمع يطغى عليه التقليد، ويهيمن عليه الماضي، ومن قلة حيلته في إقناع الجموع، واستدراجها إلى فكره، وطرحه، وعلمه، ورؤيته، ورؤياه، ورهاناته حاضرا وآتيا، على إخراجها مِمَّا هِيَ فيه، متى مَا عَانَقَتْ التقدم، والعلم، والمعرفة، والفن، والتربية، والتعليم، ورَغِبَتْ عن الجهل والأمية، واللوك، والاجترار.

يقودنا هذا إلى الجزم –أيضا- بأن الجهة الأخرى المؤدلجة دينيا، المتاجرة بالتفاسير المغرضة فقهيا، تجد نفسها مسنودة – بما لا يقاس، بالجموع الكاثرة المتكثرة، التي تنقاد إلى خطابها بسهولة ويسر، ما دام أن الجموع متدينة، تعود في كل وقت وحين، إلى ما يشدها إلى هُويتها، ويصنع اختلافها، ويبني منظومتها. ويزداد لهفها، ويشتعل وجدانها وهي تنصت إلى ذلك الخطاب الديني المرصع بالآي الكريمة، والأحاديث الشريفة، مبلورا أكثر، على أيدي أصحاب الخطاب الوعظي الإرشادي وهم يُمَسْرِحُونَهُ، ويرفعون العقيرة به، متصايحين، متباكين، نادبين، ومندوبين. فكيف والحال هذه، تسمح هذه الجموع لنفسها، التداعي لخطاب الفكر الحر التنويري وهو يركب الدنيوي، ويمتطي سَنَام الواقع، ويُقَصْقِصُ أجنحة الخرافة ليقول العِلْمَ وينتصرَ للحقوق الإنسانية، والمواطنة، والمساواة بين الناس كافة: إناثا وذكورا.

كيف تسمح هذه الجموع لمثل هذه الدعاوى الفكرية الحرة، القويمة –طبعا- والقوية بالحجة، والتجربة، والعقل، لـ"تغزو" وجدانها، وتأخذ بمجامعها، فتتبعها، وتعمل بها من دون الإشاحة –طبعا- عن دينها، لكن باعتباره فقط مرجعية وحضورا أخلاقيا رفيعا، وسموا روحيا علويا، وتزكية نفسية عالية، وتطهيرا من الأدران والأرجاس التي تعلق –عادة- بالنفس الأمارة بالسوء؟. كيف تسمح لنفسها باتباع هذا الفكر المتحرر من الغيبيات التي هي أحد أقوات العامة بإيعاز، وتزيين وخداع وتحلية من "فقهاء" المعرفة المطلقة، ذوي الاختصاص في القض والقضيض مِمَّا كان، ومِمَّا هو كائن، ومما سيكون؟، والمرتبط بحالها ومآلها في العيش الكريم مختزلا في التعليم والشغل، والسكن اللائق والخبز والدواء، والعدل الراسخ؟.

نجاح طائفة الفقهاء والدعاة، والمفسرين، والمحللين والمحرمين، الآمرين الناهين، أصحاب الحل والعقد، أهل الاختصاص، وذوي العلم "الرباني" واللَّدُني، جاء من أمية الأغلبية، من جهل السواد الأعظم بِما له، وبما عليه، أي جهله بواجباته وحقوقه، وآدميته أحيانا. وجاء من بطش الغيبيات، والخرافات، والكرامات، والاعتقاد الضارب في "العرق الشريف"، والسخرة، والتفاوت، والتسليم بكل ذلك كقضاء وقدر. وجاء من توظيف الدين، واستعماله لأهداف سياسية ودنيوية دنيئة. ومن المتاجرة به، وركوبه لتحقيق مآرب شخصية، ومن تقديس بعض المشايخ، و"الفقهاء" القدامى والجدد، الدعاة الأدعياء الذين يسعفهم مكرهم، وقدرتهم الرهيبة على التمثيل، وحِرَفِيَتهم على قلع الآيات من سياقاتها الزمنية، وإبعادها عن ظروف تنزيلها وأسبابه، لتلبس لكل حال لبوسه، من منطلق خياطة، وحِياكة غاية في المهارة والكفاية والمداهنة والتدليس.

وليضمنوا الاستحواذ والحِجْر على عقول البسطاء والضعفاء، وذوي الحاجة الرعاع والأتباع ، استقووا بالسلطات الحاكمة، والطبقات التي لها مصلحة في تأبيد الغشاوة، والظلام والاستعباد، وأطلقوا – كالأبواق ـ النفير في الجمع الغزير، عبر متواليات زمنية، بأن الحل يكمن في الإسلام، فالإسلام هو الحل، وأنه لا خلاص للمسلمين إلا بالعودة إلى جادة الدين، و"حضارة" القرون الهجرية الأولى. ما يعني إبعاد الفكر الحداثي جملة وتفصيلا، أو –في أحسن الأحوال- الأخذ منه بما يخدم الإسلام ويرفعه، وهو نَزْرٌ قليل لا يتخطى الآلات، والوسائل القمينة بالانتشار، والعمل على اقتحام الجهات الكونية بالقرآن، ودولة الإسلام، وليست تلك الوسائل غير الإعلام بكل أنواعه وصنافاته مما يُسَرِّعُ بالوصول والتواصل والتمكين. وزادوا، أن من يَؤُولُ إليه الحق في قراءة القرآن والسنة، واستخراج ما فيهما من علوم، ومعارف لبناء الدولة المنشودة، وما فيهما من شرائع، وعقائد، وأحكام لإحكام العلائق الاجتماعية، وتوضيع القوانين والنظم الاتصالية، ليس غير الفقهاء طالما أنهم المختصون، وطالما أنهم أهل الحل والعقد، العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، العالمون بأسرارهما وبدائعهما، والقادرون على استبارهما، وتفسيرهما، واستنباط منهما ما ينهض بالمجتمع والإنسان، بالبلاد والعباد، بالحاضر والمستقبل.

هم الراسخون في العلم، وغيرهم الهباء، غيرهم القلقون، الهزَّازُون، المُجَفْجَفُون كأن الريح تحتهم. كل ذلك ليكمموا الأفواه، ويقمعوا الفكر الحر، ويلغوه، ويُقْصُوهُ، بل ويَسْتَعَدَوْا عليه الناس المسالمين ذوي الحظ القليل من العلم والتعليم، والقسمة الضيزى من الفهم والإدراك. علما أن كتاب الله مبسوط منشور مفتوح لكل ذي عقل وذي لُب وذي ضمير، ولكل ذي حظ من العلم والمعرفة. لقد باشر علماء فعليون، عرب ومسلمون، قراءة القرآن بالمعنى الذي يفيد الغوص، والنزول عميقا إلى معانيه ودلالاته الجليلة والجميلة، منذ مُدَد زمنية تبعد وتقرب، وتحايثنا الآن. ولا نرى حاجة لذكرهم، فهم معروفون، يَتَلَأْلَأون كالنجوم والثريا وسط الدياجي، والظلمات حيث ربطوا الذكر الحكيم بالسياق التاريخي، واجترأوا على نبش المسكوت عنه وفيه، وساءلوا الآيات ذات الدلالات الثبوتية والقطعية في الأحكام بحسبان التطور الذي حصل عبر الأزمنة، على مستوى نضج الوعي الإنساني، ونضج المنجز الإنساني الذي خلخل الثوابت، وزعزع المسلمات، والكثير من اليقينيات، وأصبح ينتهج الشك المنهجي شرعة، ويؤمن بحقيقة التبدلات، وبديهية الأخطاء والكبوات، ويضع التجربة والتجريب على رأس اختباراته، وفتوحاته الفكرية والعلمية نظريا وإجرائيا وميدانيا.

فَرْيَةُ ترك المجال الفقهي، والحقل الديني بعامة، إلى الراسخين في اللاهوت، يستهدف – بالدرجة الأولى – الفكر الحر التجريبي الإبداعي، والمبتدع، الفكر النقدي الذي لا يستنيم إلى الميراث والتراث، فالتراث في أحد معانيه يدل على البالي والقديم، على الأسمال والرميم، فعلى ماذا تدل كلمة "رث" في اللغة؟، ولا يستكين بِدَعَةٍ وتسليم، واستسلام، إلى المنجز المعرفي الذي بُنِيَ ضمن سياقات وأشراط ذاتية، وموضوعية، ومهيمنات ثقافية وصلها وتوصل إليها الاجتهاد البشري فترتئذ. على العكس من هذا، إنه ينصب الغربال، ويضع الحَالولَ في وجه المنجز ذاك، مستخلصا عصارته، وملتقطا جوهره، وجذوته الكامنة المتوقدة. فالأصوليون أَنَّى كان منزعهم، ومرجعيتهم، يحتشدون ما وسعهم الاحتشاد، لقطع الطريق على الفكر النقدي الخلاق الذي يُعْلي مصلحة الخلق من حيث الانشغال، والاهتمام، والطاريء والمستجد، على منطوق النص الديني رابطا إياه بتاريخيته، وَمُنَزٍّلاً له على ظرفيته وحاجات البشر أيامئذ . فكل الصراع والرُّهاب الإسلاموي، منبثق من هذا الموقف، من هذا التصور والمعالجة للشأن الديني، ولأحكامه المنسوخة أو القطعية.

إذْ، بينما يميز العقلانيون العلمانيون، والليبراليون الأحرار، والاشتراكيون الديمقراطيون، واليساريون، والحقوقيون، بين ما هو وَحْي، وبين ما هو تشريع أي قراءات بشرية، وتفاسير شخصية، وقوانين وضعية، يُصِرُّ الإسلاميون الأصوليون على الخلط والدمج حتى لكأنهما شيء واحد، شيء قادم من رب العالمين، ونازل من عَنَانِ السماوات إلى وحل الأرض، ودنس البشر، وحتى لكأن الغزالي (حجة الإسلام)، وابن القيّم الجُوزية، وابن تيمية مثلا، يُسَامِتُون في التقديس والرفعة والسمو، النبيَّ الأكرمَ صلى الله عليه وسلم.

لم يستفد الدعاة العُتاة، الوعاظ الغلاظ، كما لم يعتبروا من ممارسات ومواقف متنورة أبطالها علماء دين أفذاذ كـ: "الطوفي"، و"الباقلاني"، و"الجويني" و"الشاطبي"، وغيرهم، من دون ذكر المعاصرين. فالطوفي تجرأ على كسر أهم القواعد الفقهية التي مدار الصراع عليها اليوم،: "لا اجتهاد مع النص". واشترط "الباقلاني" التضلع في العلوم والفلسفة وعلم الكلام، لكل من يأتي القرآن، ويسمح لنفسه بالشرح والتأويل، وهي نقيصة – كما نعلم- تشوب الخائضين في الشأن الديني، أي الدعاة، و"غربان" القنوات الفضائية المأجورين، المتاجرين.

أما الإمام الجُوَيْني، إمام الحرمين، فأكد، وظل يؤكد، أن المعرفة بمقاصد الشريعة كافية وحدها كأساس في الاجتهاد، بتنزيلها على واقع الزمان، ومشكلاته، ومُحْدَثاته، ومجهوله. وقل ذلك عن الإمام "الشاطبي" وغيره.

فهؤلاء المجتهدون الكبار، علماء التقدم والنور، الذين انتصروا للاجتهاد، ولمصلحة الإنسان، وعطلوا بعض الأحكام القطعية الواردة في القرآن، تَأَسَّوْا بالصحابة، بعمر بن الخطاب الصلب المستنير. فعمر اجتهد مع نصوص قرآنية، وحدود تشريعية قاطعة، بالتعطيل، والإلغاء، والمخالفة. فمن المقرر المعلوم، أنه ألغى فريضة متعة الحج، وفريضة متعة النساء، وفريضة المؤلفة قلوبهم. وعطل العمل بالحد، حد قطع يد السارق والسارقة. وعمر هو من أوثر عنه قوله: "أصابت امرأة وأخطأ عمر" في معرض تخطئته حول تمهير المرأة، ومدى مقدار ذلك من عدمه. ومختصر ذلك أن عمر ركب منبر النبي ونهى المؤمنين عن الإكثار في "تصديق" وتمهير المرأة: (ما إكثاركم في صداق النساء، وإنما الصداقات فيما بينهم أربع مئة درهم فما دون ذلك). فلما نزل، اعترضته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربع مائة درهم. أما سمعت الله يقول: (وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب..). فعاد عمر إلى المنبر وقال : "إن امرأة خَاصَمَتْ عمر، فَخَصَمَتْهُ".

والعبرة من هذه القصة، هي التواضع، والإنصات، وتعديل المواقف المتسرعة، والكلام "السائب"، واعتبار الحوار، والاختلاف، والجدل بالتي هي أحسن، أُسًّا من أسس البناء، والمواطنة، والحرية والديمقراطية. وفي هذا الامتحان يرسب الأصوليون لأنهم يعتقدون أنهم الحق، وأنهم مفوضون من السماء لتطهير دنس الأرض، وَكَنْسِ الفكر الحجاجي الناقد، وتخوين الشاك، والمعترض، والمتسائل. محاولين تأليب الناس على الأحرار المسلمين والمسلمات، مستغلين أمية الناس، وتدينهم البسيط، وإيمانهم العفوي التلقائي برب العزة، والرسول الأكرم، وهم العارفون بالحديث النبوي المتواتر: "لا ضرر ولا ضرار"، والعارفون بأن "المصلحة هي المقصد الأسمى للشارع، إذا خالف النص المصلحة، يترك النص، ويؤخذ بالمصلحة. والعارفون –أيضا- بقول النبي (ص): "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

فحجة الأصوليين في تفسير اعتراضهم على المفكرين العقلانيين، فيما يتصل بمقاربة وقراءة القرآن والسنة وفق أدواتهم التحليلية، والمنهجية، والمعرفية، هي رمي هؤلاء بجهلهم بالشأن الديني "المُعَتَاص"، والفقه أصولا وفروعا، كأنهم هم من أوتي الكتاب فقط، وأوتي المعرفة به، ملهما من عند ربه، بينما الآخرون دنيويون بعيدون عن طهارة الكتاب، وقداسة المكتوب.

هم أهل الاختصاص، وغيرهم فضولي ومتنطع، ووارد موردا ليس له، ومقتحما حِمًى دونه شوك التكفير، والتهجير والقتل. لكني أقول لهؤلاء: وماذا هم قائلون في "الإخوان المسلمون" الذين لا يمتون بصلة إلى الفقه وعلوم القرآن –في غالبيتهم- ومع ذلك هم مرشدون، وقائمون على شؤون الدين والدنيا، وغائصون إلى فروة رؤوسهم في المال والجاه والصدارة، يأمرون وينهون، ويعتقد "الغلابة" أنهم مبعوثون من الآن إلى ميقات يوم معلوم !. ماذا يقول الشيخ محمد الفزازي وأضرابه، فيهم، وهم الذين لا ينفكون يتحدثون عن أهل الاختصاص، ويحاولون بما أوتوا من عزم ودعوة في "الميديا" المختلفة، والفضائيات الخادمة والمخدومة، تسفيه الحداثيين العلمانيين، ورميهم –بالباطل-، بالتهافت على شأن ليس لهم فيه ومنه إلا " الشيح والريح"، وميدان فقهي ديني يستعصي على عدتهم وعتادهم المعرفي، ويتفوق على فضولهم وتطفلهم؟. ماذا يقولون في المرشد العام للإخوان محمد بديع، "فك الله أسره"، وهو الطبيب البيطري القادم من حقل علمي تخصصي بعيد عن الإرشاد والفقه والتوجيه، وعن جل المرشدين الإخوانيين، إذ هم قدموا إلى الإرشاد، من مؤسسات القضاء، أو الحقوق، أو الأرصاد الجوية، أو البيطرة، أو الرياضة البدنية. بل إن أحدهم لم يتعد مرحلة الثانوية العامة؟. وللشاك أن ينبش في سيرهم العلمية ليقف على ما نقول. علما أنني لا أُزْرِي بتخصصاتهم، ولا أنتقص من قدراتهم العلمية، وكفاءاتهم المعرفية، ونجاعاتهم المهنية، ولكن أَرُدُّ بسيرهم على الأصوليين الدعاة المتشددين الذين ينتقصون من كفاءة وعلمية المفكرين المسلمين علمانيين كانوا أم لييبراليين أم لا أدريين.

هكذا، تصبح مقولة "دعوا الدين لأهل الاختصاص" فرية، ودعوة تخفي وتضمر الخوف من عمق التحليل الفكري، والمعرفي لشؤون الدين، الذي تحقق ويتحقق فيما يأتيه ويكتبه المفكرون العلمانيون والمثقفون الليبراليون، والحقوقيون.

وهي دعوة ظاهرها الخوف على الإسلام، والمسلمين البسطاء، من "الفتنة"، وباطنها الاعتراف القاسي، والاقتناع الأليم، بالمستوى العالي الذي وصله "الأعداء" من داخل مِلتَهِمْ، وهم يطرحون ويعالجون، ويفككون الديانة الإسلامية، سالخين عنها، ما هو بشري مُغْرِض، وَمُوَظَّف، ومبرزين –باقتدار مُبْهر- جوهرها السامي، ونسقها الخلقي المتماسك القويم، ومنظومتها الأخلاقية الرفيعة، حاثين في نفس الآن – على الأخذ بأسباب العلم والمعرفة، وعلوم الإدارة والهندسة، والطب، والفلسفة، والفن، وغيرها، إذ هي وحدها المخرج من التخلف والتأخر الإسلامي، والظلام المهيمن. فهل بعد هذا، يجوز الحديث عن التخصص، والخصوصية، والخاصية، والخاصة، ودولة الإسلام، وتطبيق شرع الله على الأرض؟.