قضايا

من الثقافة إلى السياسة

ابراهيم أقنسوس

من الثقافة إلى السياسة، وليس العكس، درس أساسي ومركزي، يمدنا به باستمرار أستاذنا الكبير، المفكر عبد الله العروي، وهو نفس المنحى، الذي أكد عليه، عبر تنويعات مختلفة، ومطارحات عدة، في محاضرته الأخيرة، بمناسبة تدشين كرسي مستحق يحمل اسمه. لعقود طويلة والأستاذ العروي، يدعونا بأكثر من لغة وبيان، إلى الانطلاق من حيث يصح الانطلاق، من العمق الثقافي والنظري للقضايا والإشكالات، من التفسير العقلاني للظواهر والمعوقات، من النظر الفكري الرصين والدارس، للعوارض والآفات، بمختلف ألوانها وتعدد أشكالها، وكان من المنتظر، ومازال، أن نستفيد، ويستفيد المشتغلون بالشأن العام عندنا، من هذا العقل العبقري، وما يؤكد عليه، هو وأمثاله من تنبيهات وخلاصات وتحليلات، كان وما زال منتظرا، أن نصحح وضع المعادلة، فنضع الحصان أمام العربة، وليس العكس، أن ننصت لأهل الثقافة والرأي والنظر فينا، بمختلف تعبيراتهم، وأن نجعل بحوثهم ودراساتهم نبراسا نستنير به، وأن نحول اجتهاداتهم إلى تطبيقات نحيى بها، ومنجزات تمشي في الطرقات ، ثقافيا وتدبيريا، ماديا ومعنويا.

يسهل أن نلاحظ، أن الكثير مما نتفوه به، ونحاجج به بعضنا في كثير من الأحيان، لا نفهم كنهه وحقيقته، ولا ندرك ماهيته وتاريخه، ونعجز بالتالي عن تبيئته وإنشائه في تربتنا، فماذا تعني الحرية، الديمقراطية، الدولة الوطنية، الشأن العام، الحقوق الفردية والجماعية، اللغة، الواقعية، أليست هذه هي بعض مصطلحاتنا ومعضلاتنا التي نناقشها ونناقش بها، إذا حدث وكنا جادين في نقاشنا؟ من أمهات مشاكل السياسة عندنا، بعدها الكبير عن الأسئلة الثقافية، بل وسخريتها، من كل ما له علاقة بالنظر والدرس والتفكير، فأصبحنا نعيش حياتنا بالمقلوب، نقدم الأميين والجهال، وأنصاف المثقفين، ونسيد الكائنات الانتخابية، ويتحدث كتابنا ومفكرونا عن الحداثة وما بعدها، في مشهد سريالي غريب.

سياسة بلا علوم ولا أفق نظري، هذه نتيجتها. درس العروي يعيدنا إلى المفاهيم، ويضعنا أمام الأسئلة الكبرى، التي تقتضي استعمال مبضع الفكر، والنظر العميق الممزوج بجرعات كافية، من الوطنية الصادقة والمسؤولة، أستاذنا الكبير، يعيد علينا صياغة بعض مطباتنا، تلك التي لم نتمكن من الإجابة عنها، لأننا ببساطة، ضيعنا الطريق الصحيح، طريق المعرفة والوطنية معا، اللغة/ الإستقلال والتبعية/ الثقافة والفلكلور/ العقلانية الواقعية، هذه بعض معضلاتنا التي نناقشها، بالكثير من الذاتيات والإيديولوجيات، وبالقليل من الثقافة والتدقيق والوطنية.

جل معضلاتنا، إن لم يكن كلها مردها إلى عاملين اثنين، الأول، سوء الفهم الكبير، الذي يعني انفصام الثقافي عن السياسي، أو ارتباطهما الصدامي و(الإديولوجي)، الثاني، ضعف الوطنية الذي يعني وجود خلل في الانتماء، ودرس الأستاذ العروي يفيدنا في ملامسة الأمرين معا، وبداية الطريق تكمن في تحرير الأفهام من الجهالات والمغالطات والأوهام، وإسناد الأمور إلى أهلها وذويها من أهل النظر والإختصاص والوطنية، وإلا ظللنا حيث نحن، نتحدث عن مشاكل التعليم، فنأتي بمن يدعونا إلى التدريج، ويخلط بشكل سخيف بين اللغة العالمة والعامية.

نتحدث عن الإستقلال كل عام، ولا رغبة تبدو لدينا في تحرير اقتصادنا الوطني من التبعية، ولاندري كيف، ونتفرج على ثرواتنا، وهي تتعرض للتلف والتبذير، على أيدي المحتكرين والأنانيين، في الداخل والخارج، اولئك الذين حولوا الوطن إلى ضيعة وغنيمة، لهم لا لغيرهم. نتحدث عن تراجع مستوى التعبيرات الفنية في بلادنا، ونريدها أن تتجاوز مستوى الفلكلور، بتعبير الأستاذ العروي، فيأتي من يشجع فينا التفاهة والتسطيح، ويعرض علينا سخافات باسم الفن، وباسم حرية التعبير أيضا. لقد توقف الأستاذ العروي كثيرا مع ابن خلدون في محاضرته، بل وتمنى حلول روحه في القاعة، أثناء عرض أفكاره، وللمرء أن يتساءل عن عدد الذين تعرفوا على ابن خلدون، ممن يسوسون أمورنا، ويشتغلون بالشأن العام عندنا، للمرء أن يتساءل، عن عدد الذين يدبرون أمور بلادنا ويسوسونها بالعلم المطلوب، وبالنظر الحصيف، وبالوطنية الصادقة؟.