تحليل

الرقابة المالية بالمغرب

الجلالي شبيه

إن الرقابة على الأموال العمومية، أموال المواطنات والمواطنين الملزمين بالضريبة، والتي تشكل حاليا أكثر من 90 بالمئة من مصادر التمويل العمومي، إذا استثنينا الاقتراضات، معيار حاسم في تدبير المال العام واستعماله لخدمة المواطن وتحسين وضعيته وتحريره من ضغوطات الجهل والحاجة والافتقار· لكن للأسف شتان بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، ودراسة الواقع المالي والرقابي بحوادثه المختلفة يكشف لنا ثوابته ونتفهم اتجاهاته الحقيقية·

وتعتبر نجاعة الرقابة المالية وفعاليتها، هذا إذا اعتنقنا نظرة تفاؤلية وافترضنا التطبيق الفعلي، من بين المؤشرات الضرورية القليلة في التحديد الكمي والكيفي لنسبة الديمقراطية والتنمية ودولة الحق والقانون في دولة معينة، كالمغرب مثلا، رغم أن الرتبة غير المشرفة التي يحتلها حاليا المغرب في التصنيف العالمي، 123 على 189 دولة، حسب مؤشر التنمية البشرية، لا يحث على التفاؤل· والرقابة المالية وسيلة فعالة لتجنب خطورة التبذير وسوء التدبير وتحقيق جودة استخدام المال العام بهدف خدمة المصلحة العامة ورفع القدرة الشرائية للمواطن ومستوى المعيشة والاقتصاد·

إن موضوع الرقابة على المال العام هو في الواقع نشاطا متشعبا يطرح إشكالية العملية الرقابية نفسها وطبيعة الهيئات الرقابية وأنواع الأساليب المتبعة ومختلف الوسائل الضرورية للوصول للأهداف المحددة: وعي الدولة بمسؤوليتها وخدمة المصلحة العامة· إلا أن ارتقاء الدولة، عن طريق جودة التدبير وفعالية الرقابة، من بلوى المصالح الخاصة إلى المصلحة العامة، تظل، على غرار نظرية العقد الاجتماعي، "أكبر أكذوبة سياسية ناجحة"·

وعلى أي، وحتى نستمر في نفس السياق الواقعي بوصفه موضوع تأمل خارجي، علمي، موضوعي، فدراسة الرقابة المالية تقتضي منا الإحاطة بمجموع المسار الرقابي بما فيه المراقبة بهذا المفهوم اصطلاحا، أي بهذا المفهوم الضيق، وبمفاهيم أخرى لصيقة بهذا المعنى أو مرتبطة به أشد الارتباط مثل المحافظة والمتابعة والمراجعة والمحاسبة والمساءلة المالية والميزانياتية وجودة تدبير الشأن العام المالي، ومحاربة الرشوة والفساد والوقاية منهما، وتخليق الحياة العامة وتعزيز آليات الحكامة·

إذن تأسيسا على هذا المعطى وفي نفس السياق سنحاول دراسة وتحليل عمليات الرقابة المالية وواقع المراقبة المالية من خلال هذه المراحل الأربعة التالية: مفهوم، تاريخ، أنواع وأساليب الرقابة المالية بالمغرب·

أولا: مفهوم الرقابة المالية

ينص الفصل 36 من الدستور الحالي، يوليو 2011، في إطار مراقبة المال العام بالمفهوم الواسع كما يلي : "على السلطات العمومية الوقاية، طبقا للقانون، من كل أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية، وباستعمال الأموال الموجودة تحت تصرفها، وبإبرام الصفقات العمومية وتدبيرها، والزجر عن هذه الانحرافات"· وفي نفس الاتجاه يضيف الفصل 39: "على الجميع أن يتحمل، كل على قدر استطاعته، التكاليف العمومية، التي للقانون وحده إحداثها وتوزيعها···"، وكان على مانح هذه المقتضيات الدستورية أن يكمل هذه الفقرة كالتالي: "ومراقبة هذا التوزيع"، لأن الرقابة تشمل الوعاء كذلك· ونفس الشيء بالنسبة للفصل 40 الذي يتمم: "على الجميع أن يتحمل، بصفة تضامنية"، وحسب القدرة الإسهامية، "التكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد" ومحاربة "الآفات والكوارث··· التي تصيب البلاد"، وهنا كذلك فالرقابة غير موجودة نهائيا في كل مرحلة من مراحل هذه الفقرة رغم أهميتها، لأن غياب المراقبة المالية من النص تعدم فعاليتها في الواقع·

ويعرف المهندس الفرنسي هانري فايول الرقابة في كتابه "الإدارة الصناعية والعامة" المنشور في سنة 1917 بأنها "التحقق من أن التنفيذ يتم طبقا لخطة مقررة واستراتيجيا متبعة"· لكن ما يمكن إضافته لهذا التعريف هو، على الأقل، معرفة هدف هذه الخطة وطبيعة هذه الاستراتيجية· أو بمعنى آخر إلى ماذا تسعى هذه الخطة وهذه الاستراتيجية، إلى تحقيق الصالح العام أم المصالح الخاصة؟

بحيث إذا كان تحمل أو تقل التكاليف العمومية يفرض على قدر الاستطاعة الإسهامية للملزم فالفضل راجع لأهمية الرقابة، وإذا كانت سياسة إعادة توزيع الدخول سياسة ناجعة ترضي المواطن فالفضل راجع لدور الرقابة، وإذا كان استخدام الأموال العمومية، ونحن نعلم أن مصدرها ضريبي، أي المواطن، استخداما حسنا، أي لصالح الخاضع لعبء للضريبة، فالفضل راجع لفعالية الرقابة·

فالرقابة المالية بالمفهوم الشمولي، القانوني والاقتصادي والتدبيري والسوسيولوجي، تشمل جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية· فكلما تعلق الأمر ويتعلق بالتنظيم والتنبؤ والتنفيذ والتعديل والفحص والإشراف والمراجعة المستندة والانتقادات الحسابية والإجراءات التصحيحية المصاحبة والمحاسبة والمساءلة والتقييم فهو رقابة لا محال·

وتعتبر الرقابة المالية من هذه الزاوية ليست فقط بعض الوحدات المتفرقة هنا وهناك بقدر ما هي كثلة مترابطة الأطراف تجتاح كامل الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي بكل مظاهره وتعقيداته· وهكذا تتعدد وتختلف وظائفها من تقييم الكفاءات للهيئات وتقوية العنصر البشري إلى تصحيح الإجراءات وتحليل الانحرافات مرورا باتخاذ التقارير والتعليمات والمقارنة للمعطيات·

فالمقارنة التحليلية، النقدية، العلمية هي في حد ذاتها رقابة· وفحص المدخلات والمخرجات المالية والمحاسبية هي في حد ذاتها رقابة· واهتمام الجماعة أو المنظمة أو المؤسسة بالتخطيط والبرمجة والتنظيم الفعال وعقلنة مصادر التمويل والتحصيل وترشيد الإنفاق فهو في حد ذاته رقابة·

ثانيا: تاريخ الرقابة المالية

إلى جانب هذه المقولة المشهورة للأستاذ بول أمسالك:"هل يمكن وجود دولة بدون مالية؟" أود أن أضيف: وهل يمكن وجود مالية بدون رقابة؟ في الواقع لا أتصور وجود دولة قائمة ذاتيا بمفهومها الواسع بدون أن تكون لها مالية للقيام بمهامها ومراقبة مستمرة على هذه المالية والتدبير المالي·

إن الدراسات الأركيولوجية (علم الآثار) والجيولوجية (علم الأرض) والأنتروبولوجية (علم الإنسان) والباليوأنطولوجية (علم الحفريات) والتاريخية المعمقة للأنماط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعصور القديمة، أثبتت لنا وجود تنظيم مالي واجتماعي أو منظومة مالية مكتملة من حيث إدارة وتدبير الموارد والنفقات وتسيير الذمة المالية للدولة·

إن أصل الدولة، بالمفهوم النشوئي، أي من خلال تطور العشائر والقبائل والمدن والمملكات والإمبراطوريات، وملكيتها للمال العام ومراقبته والمحافظة عليه ظاهرة لازمت وتلازم تجمع الأفراد والمجموعات الاجتماعية منذ آلاف السنين·

تظهر هذه الحوادث والوقائع المالية من خلال تحصيل الجبايات والمكوس والغرامات والإدانات وطرق صرفها في الأمن والإدارة وبناء الأسوار والقصور والطرق والمعابد وذلك منذ بداية الحضارات الإنسانية· أثبتت لنا هذه الدراسات والأبحاث وجود أنظمة مالية في حضارة ما بين النهرين منذ عشرة آلاف سنة، في الصين منذ ثمانية آلاف سنة، في مصر الفرعونية منذ ستة آلاف سنة، في الفرص منذ خمسة آلاف سنة، وفي الهند منذ أربعة آلاف وخمس مئة سنة، وفي اليونان (أثينا) منذ ألفين وست مئة سنة، وفي روما (ايطاليا حاليا) منذ ألفين وثلاث مئة سنة·

والرقابة المالية نشأت مع نشأة الدولة وملكيتها للمال العام، في شخص حاكمها، وإدارته نيابة عن الشعب· غير أن هذه النيابة، بدورها، تطورت عبر الأجيال والقرون وتحولت هي الأخرى إلى شبه ملكية في حوزة الدولة، ولم يستطع الشعب يوما الوصول إلى التحكم في إنفاق أمواله وضبط قراراتها المالية وتوجهاتها·

ففي مدينة بابل مثلا، حضارة ما بين النهرين، بغداد حاليا وجانبا من سوريا، ويرجع عهد هذه الحضارة إلى أربعة آلاف وثلاث مئة سنة، كانت مداخيل المدينة ضريبية أساسا، وتستخلص بناء على عمليات حسابية رياضية، المعروفة حاليا بمنظومة التعداد العشري، ألغوريثم، أي الحسابات العددية·

وتهتم الألغوريثم أو الألغوريثميك من بين ما تهتم به ترشيد الموارد وكيفية تحصيل الضرائب واستعمال المناهج الاحتمالية وتحديد المدخلات والمخرجات والمردودية والفترة المحددة لها وانجاز أو تنفيذ عمليات مالية محكمة· تستعمل هذه العمليات الحسابية الرياضية، ألغوريتميك، في السياسة، في الاقتصاد، في المالية، في الضرائب، في الطب··· والآن، أصبح لها دور جد مهم في الذكاء الاصطناعي والبرمجة الرقمية والمعلوماتية للسلوكات والتصرفات الإنسانية كالإنتاج والتوزيع وإعادة التوزيع والاستهلاك والادخار والاستثمار والخدمات في العديد من المجالات·

وكان لدى الدولة الفرعونية في مصر رقابة مالية، يرجع عهدها إلى خمسة آلاف سنة، تهتم بضبط المحاصيل في القطاعات الفلاحية والزراعية والحرفية وفي تربية المواشي باعتبارها أساس الموارد الضريبية· وكان لدى اليونان، في أثينا خاصة، مؤسسة مختصة بالرقابة على الأموال العمومية، وكذلك كان الأمر في روما·

وكان لدى الإمارات "البربرية" الأمازيغية في المغرب وذلك منذ ألفين وأربعة مئة سنة برئاسة أكليد سيادة عسكرية وجبائية تتحكم من خلالها في تنظيم الجند وتخطيط الإيرادات الضريبية·

وجاء في النصوص القرآنية، سورة التوبة، قوله تعالى: "كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة···" وفي نفس السياق، سورة التوبة كذلك، "لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة وأولئك هم المعتدون"· وجاء في سورة النساء : "إن الله كان عليكم رقيبا"، أي مطلعا حفيظا لأعمالكم· وفي قوله تعالى، سورة القمر، "إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر"، وفي سورة القصص: "فخرج منها خائفا يترقب"· ووردت الرقابة في الإسلام وفي النظام الإسلامي بمعان كثيرة كالانتظار، والحفظ، والرعاية، والأمانة، والحراسة، والإشراف، واستخدم الرقيب بمفهوم المنتظر والحافظ والراعي والأمين والحارس والمشرف· وكان النبي محمد (ص) يلقب بالصادق الأمين لنزاهته واستقامته وحسن سلوكه، في الأعمال والمعاملات، وأداء الحقوق لأربابها، ورد الودائع لأصحابها، وحرصه على إدارة وتدبير شؤون الجماعة، ثم الدولة الإسلامية فيما بعد، بكل صدق وأمانة ومسؤولية·

والرقابة المالية، في ظل الدولة الإسلامية، وذلك من القرن السابع إلى القرن الرابع عشر ميلادي، تميزت خاصة بنظام الحسبة وولاية المظالم وديوان بيت المال وما حققته هذه المؤسسات من نجاعة مالية واقتصادية في هذا المجال·

والحسبة في النظام الإسلامي، بما فيه النظام المالي والرقابي، هي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح ما بين الناس· وعمليات الأمر أو النهي أو الإصلاح، هي كذلك بالضرورة عمليات مالية رقابية لا محال· يقول تقي الدين ابن تيمية في كتابه "الحسبة في الإسلام" إذا اجتمع الأفراد: "فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة ويكونون مطيعين للأمر بتلك المقاصد والنهي عن تلك المفاسد"·

والنظر في المظالم، كما جاء في "الأحكام السلطانية" للماوردي، هو حمل "المتظلمين إلى التناصف" وزجر الظالمين· وولاية المظالم، كما عرفها ابن خلدون في المقدمة، هي في الواقع: "وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاة"· يقول ابن خلدون في ديوان الحسبان، وهي ما يعادل المحاسبة حاليا، كانت في ظل الدولة العباسية (750 – 1258) من اختصاص الوزير: "··· فاحتاج (هذا الأخير أي الوزير) إلى النظر في جمعه (أي المال العام) وتفريقه، وأضيف إليه النظر فيه··· (أي مراقبته) .

والدواوين، جمع ديوان، وهي ما يشابه حاليا الوزارات بكل مصالحها ومرافقها ووثائقها ودفاترها أو سجلاتها التي وضعت، كما يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: "لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال"· وديوان الزمام وهو يشبه، إلى حد ما، حسب المختصين ديوان المحاسبات أو مراقبة أو مراجعة الحسابات فهي كذاك عمليات مالية ورقابية محكمة·

أما ديوان بيت المال، وهو بمثابة الخزينة العامة حاليا، فيهتم بضبط إيرادات الدولة، كالزكاة والخراج والجزية وعشور التجارة والفيء والغنائم والقروض وموارد أخرى لا يعلم لها مستحق، ومحاسبة القائمين على أمور هذه الأموال وطرق صرفها في شؤون الدولة والمصالح والخدمات العامة·

وفي الدول الغربية، خاصة في بريطانيا أولا، ظهرت مراقبة البرلمان لاقتطاع الضريبة من طرف الملكية وضرورة الموافقة سنويا على هذا الاقتطاع من طرف البرلمان وذلك منذ بداية القرن الثالث عشر· وظلت هذه المصادقة تتطور وتأخذ طابعها الشرعي داخل المؤسسات والحياة السياسية البريطانية منذ ظهور ميثاق 1215 ثم عريضة الحقوق سنة 1628 والإعلان عن الحقوق سنة 1689·

أما بالنسبة لفرنسا فمبدأ الموافقة على اقتطاع الضريبة المخولة للملكية من طرف البرلمان لم تظهر صراحة ورسميا إلا بعد الثورة الفرنسية1، والإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789، خصوصا في الفصلين 14 و15 منه· أقرت هذه الوثيقة إعادة ترتيب المجتمع على أساس المساواة في الحقوق بين الأفراد، وإلغاء الإقطاع وتقسيماته للمجتمع إلى ثلاثة طبقات (الكنيسة، النبلاء، عامة الشعب) واستبدال استغلال مبادئ ميتافيزيقية إلهية دينية كمصدر للسلطة والحكم بمبادئ واقعية، عملية، كالشعب والأمة والصالح العام· وتم كذلك تحديد مبادئ عامة لفرض الضريبة واستخلاصها وأجل استحقاقها والمساواة في تحمل التكاليف العمومية، حيث كان في النظام القديم النبلاء والكنيسة معفيين من الضريبة، وأعطي الحق للجمهور في الشفافية وأجبرت السلطة على كشف كيفية صرف المال العام·

ينص الفصل 14 من الإعلان عن الحقوق: لكل المواطنين الحق في أن يراقبوا، سواء كانت المراقبة بأنفسهم أو بواسطة ممثليهم، ضرورة المساهمة العمومية، كما لهم الحق أيضا في معرفة أوجه صرفها وتحديد حجمها ووعائها وتحصيلها ومدة التحصيل· ويتابع الفصل 15 من الإعلان: للمجتمع الحق في مساءلة، ماليا وحسابيا، كل مستخدم بالإدارة العمومية·

ومع ذلك لم يدخل هذا الإعلان الفرنسي حيز التطبيق إلا بعد الإصلاح التدريجي التي أتت به حكومة التجديد خلال بداية القرن التاسع عشر انطلاقا من سنة 1817 إلى غاية 1831 وما بعدها·

وتمت صياغة دستور الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1787 واقتراح وإقرار ميثاق الحقوق الأمريكي سنوات 1789-1791 في نفس الحقبة، حيث أتى هو الآخر بمبادئ وقواعد مالية وضريبية ورقابية بشأن الميزانية الفيدرالية والسياسة النقدية والموارد الضريبية والرقابة المالية والسياسية والتوازن بين السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية·

ثالثا: أنواع الرقابة المالية

إن المعايير المستعملة في التمييز بين أصناف الرقابة على المال العام عديدة ويمكن تحديدها من خلال الإجراءات والمساطر المتبعة، أو الهيئات التي تتولى الرقابة والأهداف المتوخاة منها، أو الفترة الزمنية التي تندرج فيها عملية الرقابة·

فالرقابة على أساس المساطر والقواعد القانونية تهتم، خاصة في المجال الضريبي، بوصفه المورد العمومي الرئيسي، بنطاق التطبيق أو الوعاء أو الأساس الخاضع للضريبة، أي تحديد الحاصلات والأرباح والدخول والعمليات والمواد المضربة وكذا الاتفاقات والمحررات، الأشخاص المفروضة عليهم الضريبة والتزاماتهم، والأشخاص المعفاة منها، لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية· كما تهتم كذلك بتصفية الضريبة والإقرارات والتصريحات الضريبية المتعلقة بالأسعار والمبالغ والوثائق الخاصة بالأداء وآجال الاستحقاق، وبقواعد وإجراءات التحصيل، الرضائي أو الجبري، للديون العمومية، بما فيها الضريبية، على الأفراد والشركات والأغيار المتضامنين، وعلى القيمة المضافة والعقارات والمركبات وغيرها من المنقولات، والجزاءات على المخالفات والإدانات بشأنها· هذا فيما يخص الرقابة بالمفهوم الواسع، أما الرقابة في معناها الضيق فهي تعني حق مراقبة الإدارة للخاضع للضريبة ووضعيته الضريبية، والاطلاع على الدفاتر والسجلات ومحتويات الأملاك ووجوب الملزم الاحتفاظ بالوثائق المحاسبية إلى حدود فترة زمنية معينة، والقيام بالإجراءات التصحيحية لأسس الضريبة، وفرضها بصورة تلقائية، وحق الشفعة لفائدة الخزينة العامة وآجال التقادم لصالح الملزم·

والرقابة على أساس الهيئات والسلطات المختصة بهذه المهمة يمكن حصرها في رقابة سياسية، رقابة إدارية، رقابة قضائية ورقابة اجتماعية (إعلامية ومدنية)· فالرقابة السياسية، وهي من اختصاص البرلمان بغرفتيه ولجانه الدائمة، تساير قانون المالية مند البداية إلى النهاية· تعرض الحكومة، وجوبا، مشروع قانون المالية السنوي على البرلمان لدراسته ومناقشته وتقديم التعديلات التي يراها ضرورية والتصويت والمصادقة عليه·

وعندما يدخل قانون المالية حيز التطبيق تستمر رقابة البرلمان عليه من خلال اللجان المالية الدائمة والأسئلة الشفوية الأسبوعية المطروحة على الوزراء وضرورة الجواب عن هذه الأسئلة من طرفهم· وتستمر هذه الرقابة البرلمانية المواكبة كلما تعلق الأمر بإعداد مشاريع القوانين التعديلية وعرضها على البرلمان بقصد مناقشتها والمصادقة عليها· ولا تنته هذه الرقابة البرلمانية بانتهاء التنفيذ السنوي للميزانية بل تستمر بعده، على شكل رقابة لاحقة، تتمثل كذلك في الأعمال الرقابية المستمرة للجان المالية الدائمة، وربط مسؤولية الحكومة إن اقتضى الحال، وخاصة قانون التصفية المتعلق بتنفيذ قانون المالية السابق والذي يتضمن حصيلة ميزانيات التجهيز التي انتهت مدة نفاذها· ويمكن ربط مسؤولية أعضاء الحكومة جنائيا عما يرتكبون من جنايات وجنح أثناء ممارستهم لمهامهم بما فيها تدبير المال العام، وإمكانية سحب الثقة من الحكومة أو التصويت على ملتمس الرقابة وهي من صلاحية مجلس النواب أو التصويت على ملتمس المساءلة، مساءلة الحكومة، وهي من اختصاص مجلس المستشارين· غير أن هذا النوع من الرقابة يظل بعيد التطبيق أو التحقيق، لأنه أضحى منذ سنين مفهوما نظريا أكثر منه عمليا·

والرقابة الإدارية هي رقابة داخلية نابعة من الإدارة نفسها، تستحق ما تستحقه، حسب طبيعة الإدارة من حيث المسؤولية والنجاعة والفعالية والمردودية· والمراقبة الإدارية تمارس، في الواقع، ماليا ومحاسبيا وتدبيريا داخل الإدارة ذاتها من خلال الفصل بين الآمر بالصرف والمحاسب، والرقابة قبل صرف النفقة، والرقابة على الأداء ومراقبة الالتزام بالنفقات وفحص شرعية العمليات المالية والقيود المسطرية والمحاسبية، ومهام المفتشية العامة للمالية والخزينة العامة وربط التقديرات الميزانياتية بحسن التدبير وبالنتائج الاقتصادية وفحص المستندات ومراجعة الدفاتر وتصحيح الأخطاء والانحرافات والتي قد تؤدي إلى عواقب وخيمة في مجال الإدارة والتدبير العمومي وحسن التسيير· وتدخل كذلك في مجال الرقابة الإدارة رقابة الحكومة على المؤسسات العمومية وشبه العمومية وعلى شركات مقاولات القطاع العام وعلى الجماعات الترابية وعلى كل مؤسسة، جمعية أو منظمة، تتمتع بإعانات أو إمدادات الدولة، وتستفيد على هذا الأساس بقدر وافر من المال العام، من مال الخاضع للضريبة·

والرقابة القضائية بكل ما تشمله هذه الكلمة من نوازل ودعاوى مختلفة وأجهزة وجهات قضائية معنية والتي تربط مسؤولية الحكومة وإدارتها في تدبير الشأن العام المالي (من ميزانية، وضرائب، ومحاسبة، وتسيير، وإنتاج، واستثمار، واستهلاك) كالقضاء الدستوري (ودستورية القوانين) بما فيه المسؤولية المالية لأعضاء الحكومة، أو القضاء الإداري بما فيه الجبائي ومسؤولية الإدارة من هذا الجانب أو في إطار الصفقات العمومية، أو القضاء العادي بما فيه الجنائي أو التجاري وبيع الممتلكات العمومية (الملك العام أو الخاص)، أو القضاء المالي، كقضاء المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات، وما قد تنم عنه وتكشفه تقارير هذه المجالس من اختلالات مالية كتزوير الفواتير والزيادة في المبالغ واختلاس المال العام·

والرقابة القضائية لا تقتصر فقط على مراقبة الأموال العمومية داخل التراب الوطني فقد تتعداه لتشمل مراقبتها ومكافحة الجرائم المالية والضريبية كالتهريب أو الغش الضريبي وتهريب أو غسل الأموال ومعاقبة المجرمين سواء على مستوى القضاء الوطني أو القضاء الدولي مثل محكمة العدل الدولية أو المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان· ويقدر تهريب رؤوس الأموال خارج المغرب، حسب تقارير لهيئات مالية دولية، بما يعادل 41 مليار دولار، أي ما يفوق 394 مليار درهم، خلال العشر سنوات الأخيرة· وإذا أضفنا سوء تدبير الثروات الطبيعية، وضعف أو انعدام الرقابة عليها، وهي من بين الموارد الأساسية في تمويل الإنفاق العام كالمياه والغابات والأراضي الفلاحية، والصيد البحري، والطاقة الشمسية، والمعادن وخاصة الفوسفات، والتراث السياحي الطبيعي··· وإذا أخدنا على سبيل المثال الموارد المالية السنوية الحقيقية المتولدة عن الفوسفات لوحده فهي تزيد عن 11 مليار دولار أمريكي، أي ما يفوق 105 مليار درهم سنويا·

والرقابة الاجتماعية يمارسها المجتمع المدني بما فيه الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية والصحافة والرأي العام الوطني والدولي وحتى النقابات والأحزاب السياسية· يباشر المجتمع المدني حقه من خلال الدستور في الإشراف والرقابة على تحصيل وصرف الأموال العمومية وهو حق ناتج عن ملكية المجتمع للمال العام والذمة المالية، بوصفه مؤدي الضريبة، أهم مورد حاليا لتمويل ميزانية الدولة· لكن هل فعلا كل هذه المبالغ الظاهرة 229 مليار درهم خلال السنة المالية 2019 أي ما يفوق 90 بالمئة من الموارد العادية للدولة باستثناء الاقتراضات الداخلية والخارجية تصرف بالفعل في تغطية الحاجيات الاجتماعية والاقتصادية والمجالية والبيئية الملحة وإشباع التطلعات الأولوية والاستعجالية للمرتفقين وللملزمين بالضريبة وانتظارات الفئات والمناطق المتضررة أم تستخدم لأغراض ومصالح خاصة؟

والرقابة من حيث الفترة الزمنية التي تندرج فيها العملية الرقابية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مراحل: قبل، خلال وبعد المسار المالي، أو الرقابة القبلية، الرقابة المواكبة والرقابة اللاحقة·

تمارس الرقابة القبلية أو المسبقة من طرف هيئات سياسية كالبرلمان واللجان البرلمانية خلال وضع مشروع قانون المالية أو إدارية ومالية ومحاسبية كالرقابة على الأداء أو مراقبة الالتزام بالنفقة أو الرقابة قبل صرف النفقة والقيود المسطرية الإدارية والمالية والمحاسبية المفروضة عليها· وينبني في الواقع هذا النوع من الرقابة على مبدأ الوقاية خير من العلاج، لكن هذه الوقاية قد تنزلق وخاصة في الدول النامية أو ضعيفة الديمقراطية إلى رقابة مفرطة سلبية مما يؤدي غالبا إلى عرقلة السير العادي للعمليات المالية وللمرافق العمومية· وعلى هذا الأساس فقد نهجت معظم الدول الغربية والدول التي تسعى إلى تطوير ماليتها ديمقراطيا إلى الحد من وطأة هذا النوع من الرقابة سعيا إلى تحسين تدبيرها المالي وجودته وفعاليته ومردوديته·

وتطبق الرقابة المالية المواكبة أثناء التنفيذ، وهي رقابة داخلية، ذاتية، أو خارجية، تساير التنفيذ من أوله إلى آخره، مثل ما هو الشأن بالنسبة للمفتشية العامة للمالية، أو الخزينة العامة، أو المحاسب العمومي تجاه الآمر بالصرف، أو البرلمان واللجان البرلمانية، وكذلك رقابة المجتمع على الأموال العمومية، كالصحافة والرأي العام ومجموعات الضغط· وتتجلى هذه الرقابة في الإجراءات التصحيحية المصاحبة، كتصحيح الأخطاء والانحرافات والاختلالات، ومطابقة العمليات المالية لمبدأ الشرعية ودستورية القوانين، ورقابة السجلات والوثائق والمستندات والدفاتر والبيانات المالية والمحاسبة· وقد أصبحت الآن الآلات المستحدثة كاستخدام المعلوميات والتكنولوجيا من بين الوسائل الضرورية في تدبير ومراقبة المال العام· لكن للأسف، كل هذه الترسانة الرقابية، تظل حبرا على ورق، وهو نصيب أغلبية الدول النامية، ضعيفة الديمقراطية·

وتمارس الرقابة اللاحقة بعد النهاية التامة لتنفيذ الميزانية، وهي فحص ومراجعة وتقييم العمليات المالية المنتهية ومقارنة النتائج والإنجازات بالمشاريع الموضوعة والأهداف المنتظرة، مثل ما هو الشأن بالنسبة للتقارير السنوية للمجلس الأعلى للحسابات وقانون التصفية المتعلق بتنفيذ قانون المالية الذي تعده الحكومة ويسهر البرلمان بغرفتيه على فحصة وتقييمه· ويشكل قانون التصفية، الذي تعرضه الحكومة سنويا على البرلمان للمصادقة عليه، وثيقة مالية ومحاسبية أساسية لمراقبة وتقييم التدبير المالي السنوي للسلطة التنفيذية ومقارنة التقديرات الميزانياتية بالإنجازات المحققة وإجبار الحكومة السنة المالية المقبلة على اتخاذ القرارات اللازمة لتصحيح الأخطاء والهفوات والزلات التي تشوب السير العادي أو بالأحرى السير الجيد للمرافق وتحول دون الوصول إلى الأهداف والأولويات المتوخاة· لكن لسوء الحظ، لا شيء من هذا القبيل يمارس·

رابعا: أساليب الرقابة المالية

إن النظم والأساليب الرياضية والإحصائية والمحاسبية والإدارية التي تستخدم في تحقيق رقابة مالية فعالة عديدة ومتشعبة يمكن اختصارها أو حصرها في هذه النقط التالية:

إن الرقابة المالية تخطيط منهجي استراتيجي، تقني وعقلاني، يرتكز على خطة تنظيمية تحدد المستويات والسلطات والمهام والمسؤوليات، وليس مجرد تصرفات عرضية، وردود أفعال لأحداث·

تقوم هذه الرقابة على معايير سليمة ومؤشرات دقيقة وتقييم علمي حقيقي للأداء يتم إعداده بشكل صارم، مع ضرورة المقارنة بمقاييس تأخذ بعين الاعتبار عوامل الزمن والمكان والكفاءات والتطلعات والأهداف المنتظرة·

إن مراقبة المال العام متابعة مستمرة، بدون مبالغة ولا مغالاة، وتغذية مرتدة بالمعلومات الاقتصادية والتدبيرية والسوسيولوجية والمحاسبية والتكنولوجية ومراجعة العمليات المالية بعد التنفيذ· وهي تعتمد لنجاعتها وفعاليتها على سلوك الأشخاص المسؤولين وكفاءاتهم وأخلاقهم داخل المنشاة أو المؤسسة أكثر مما تعتمد على الإجراءات الآلية لتحقيقها·

والرقابة المالية ذات الجودة في الأداء رصيد هائل من المعلومات والمؤشرات والكفاءات والخبرة والملاحظة والمقارنة يتمتع بها الرقيب تهدف إلى ترشيد سلوك الأفراد المسؤولين وتحثهم أو تزرع في أدهانهم كيفية القيام بعملهم على أحسن وجه وبالتصميم الملائم والتفكير السليم والتدبير الجيد والقدرة على وزن الأمور وزنا دقيقا والحكم عليها حكما صحيحا لاتخاذ القرارات الملائمة والتأقلم مع الظرفية والأوضاع المتغيرة·

إن التحليل المالي الرقابي والمحاسبي السليم يهتم كذلك بالعلاقة القائمة بين التكلفة وحجم المبلغ وجودة المرفق والفرق بين النتائج الفعلية والتقديرات المحددة مع الأخذ كذلك بعن الاعتبار الكفاءة في إدارة وتدبير المرفق والمرونة في الممارسة والتكيف والابتكار· إن الدولة، ومن خلال الدولة الحكومة، باعتبارها المسؤول الأول، التي تكون غير قادرة على مراقبة ومتابعة وتقييم ومراجعة شؤون المجتمع وماليته وذمته المالية بكل حزم ومسؤولية وصدق وأمانة لا يرجى منها لا نموا ولا تنمية ولا ديمقراطية· ستظل دولة ذات سياسة سطحية واستراتيجية ترقيعية إلى أن يظهر البديل بمفهومه وواقعه البنيوي، التنموي، الديمقراطي·

1 Jusqu’au XVIIe s. en Angleterre et au XVIIIe s. en France, et dans d’autres Etats européens, le territoire de ces Etats était la propriété du roi. Toutefois, les efforts réitérés du Parlement de ces Etats ont respectivement imposé à la monarchie que le monarque n’est plus le roi de l’Angleterre, de la France de l’Allemagne ou de l’Espagne, mais le roi des Anglais, des Français, des Allemands ou des Espagnols et lui imposé également l’adoption d’une liste civile qui limitait précisément son patrimoine privé par rapport au domaine public et sa rémunération, à l’instar d’un chef d’Etat, par rapport au budget de l’Etat.

*أستاذ التعليم العالي في القانون والمالية والضرائب بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، مراكش