رأي

عبد الكريم بنعتيق: من تداعيات الحرب الأوكرانية الروسية.. تخوف عسكري أوروبي مقلق

من البديهيات التي تحظى بإجماع جل المختصين في القضايا المتعلقة بالتعقيدات الكونية، هو أن النظام الدولي الحالي، الذي مازال قائماً إلى يومنا هذا، في مرجعياته ومؤسساته وآلياته، ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية في نشأته، كما قادت إليه حلفاءها بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا كان ما يسمى بالاتحاد السوفياتي سابقاً قبل التفكيك قد حصل على موقع متميز كفاعل رئيسي في منظومة العلاقات الدولية، فذلك راجع إلى سببين رئيسيين: الأول هو أنه من المنتصرين الأساسيين في الحرب العالمية الثانية على النازية، والثاني هو اكتسابه للقنبلة النووية، هذه الأخيرة غيرت موازين القوى على المستوى العسكري،

ومعلوم أن تفوق الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الباردة قد قوى من هيمنتها على مفاصل هذا النظام، يظهر ذلك جلياً من جديد في الحرب الروسية الأوكرانية، بحيث برز التفوق الأمريكي من خلال التحكم في كل التعقيدات المحاطة بهذا الإشكال الجيو-استراتيجي بالرغم من أنه توتر أوروبي محض.

أزمات الاتحاد الأوروبي متعددة، منها الإرهاب والهجرة السرية، ثم التراجع على المستوى الاقتصادي، بحيث يتوقع المتتبعون انخفاض مساهمة الاتحاد في الناتج الداخلي الخام العالمي من 15% إلى 9% في أفق سنة 2050، زد على هذا تداعيات البريكست، وما ترتب عن ذلك من مشاكل بعد انسحاب بريطانيا من المشروع الوحدوي الأوروبي.

مع نشوب الحرب الأوكرانية الروسية، عاد من جديد النقاش حول الاستقلالية الاستراتيجية للقارة الأوروبية، من خلال طرح سؤال جوهري، هو أنه في حالة نشوب حرب شاملة داخل القارة العجوز، هل يستطيع الاتحاد الأوروبي الدفاع عسكرياً عن الدول 27 المكونة لمنظومته الوحدوية؟

هذا النقاش ليس وليد لحظة هذه الحرب، فالرئيس الفرنسي ماكرون من خلال استجواب خص به جريدة “الايكومنست” البريطانية سنة 2019، اعتبر أن حلف “الناتو” يمر من موت سريري، الرد جاء سريعاً من ألمانيا عن طريق وزارة الدفاع، التي اعتبرت آنذاك أن كل الميزانيات المخصصة لهذا المجال في كل دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة غير كافية لإيجاد استقلالية عن المظلة الأمريكية، بحيث لا تتعدى في مجموعها 240 مليار يورو، في حين إن ميزانية الصين لوحدها تصل إلى 227 مليار يورو، أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي تخصص 700 مليار دولار سنوياً لقطاع الدفاع، على مستوى القوات العسكرية، لاحظت ألمانيا أن جيوش الاتحاد الأوروبي مجتمعة لا تتعدى مليونا و500 ألف جندي، وأنه في الحالات القصوى لا تستطيع بروكسيل تعبئة أكثر من 5000 جندي، نظراً لغياب الآليات التنسيقية الميدانية الدائمة، ضف النقص الكبير في الأقمار الاصطناعية ذات الأغراض العسكرية، تم الخصاص المهول في الطائرات التي تزود المقاتلات بالوقود جواً، بالإضافة إلى قلة الطائرات الخاصة بنقل الجنود والعتاد، بالرغم من أن شركة “ايرباص” الأوروبية نجحت في صنع طائرة نقل لها مواصفات محترمة في هذا المجال، ونقصد هنا طائرة “AM 400”.

مباشرة بعد هذا النقاش، تم خلق الصندوق الأوروبي المكلف بقضايا الدفاع، مع التزام الدول الأعضاء بضخ 13 مليار يورو ما بين 2021 و2027. مبلغ عادي إذا ما قورن بالتحديات العسكرية المطروحة على القارة، لاسيما وأن كل المشاريع المشتركة في هذا المجال متعثرة، أو تسير ببطيء؛ فمثلاً المشروع الفرنسي الألماني لإنتاج دبابة مشتركة لتعويض الدبابة الألمانية “ليوبار” (2 Leopard) والفرنسية “لوكلير” (Leclerc) مازال متعثراً، كما أن شركة “داسو” (Dassault) الفرنسية الرائدة في مجال الطيران الحربي، متحفظة من مشروع الطائرة المقاتلة الألمانية الفرنسية خوفاً من انتقال أسرار الصناعة العسكرية الفرنسية إلى الضفة الألمانية، أضف إلى هذا هيمنة ثقافة التعامل مع المجال العسكري كمجال سيادي بامتياز لدى جل صناع القرار داخل الاتحاد الأوروبي، مما يجعل التنسيق القبلي شبه مستحيل، مع صعوبة إقناع بعض دول الاتحاد بضرورة تخصيص 2% من الميزانية العامة لقطاع الدفاع.

وبالرغم من وجود الوكالة الأوروبية المعنية بهذا المجال، إلا أنها عجزت عن إيجاد نوع من التنسيق أثناء اقتناء الأسلحة التي تحتاجها الدول الأوروبية؛ ففي مجال الطيران الحربي مثلا، برمجت إيطاليا شراء 90 طائرة “ف 35” أمريكية الصنع، تبعتها في ذلك هولندا بـ 46 طائرة وبولونيا بـ 36، ثم ألمانيا بـ 35 طائرة.

ارتباك آخر ظهر في الشهور الأخيرة تجلى في كثرة المبادرات الخارجة عن التنسيق والتشاور؛ فالنرويج قررت لوحدها رفع ميزانية الدفاع لسنة 2023 بـ 10% لكي تصل إلى 7.2 مليارات دولار، كما أن إسبانيا برمجت هي الأخرى ارتفاعاً تدريجياً في ميزانية الدفاع لكي تصل إلى 2% من الناتج الداخلي الخام مع مطلع سنة 2030، ووزارة الدفاع لدولة إستونيا أكدت أن ميزانيتها ستصل إلى 3% من الناتج الداخلي الخام سنة 2024، والدانمارك بدورها قررت اعتماد مبلغ 5,5 مليارات لتحديث الترسانة البحرية العسكرية.

أما بولونيا فقد عبأت 20,66 مليار دولار لشراء أسلحة أغلبيتها أمريكية؛ فبالإضافة إلى نظام “باتريوت” بـ 5,5 مليارات دولار، و250 دبابة “ابراهامس” (1 Abrams) بالرغم من توفرها على الدبابة الألمانية “ليوبارد” (leopard A4) ثم نظام مدفعية مكـون “9-672″ و”كراب” (48 Krab)، عبرت عن رغبتها في برمجة شراء 500 قطعة من الراجمــات “هيــرمـاس” (lance-roquettes multiples M 142 Hirmas) التي أثبت قوتها ونجاعتها في الميدان العسكري مؤخراً بالأراضي الأوكرانية، متفوقة على المدفعية الروسية، بالرغم من أن واشنطن لم تسلم لكييف في هذا المجال إلا الراجمات التي لا يتعدى مداها 80 كلم، وليس تلك التي تتعدى 300 كلم، خوفاً من وصولها إلى الأراضي الروسية.

فرنسا رغم الأزمة المالية أعادت النظر في ميزانية الدفاع لسنة 2023، بحيث ارتفعت إلى 43,9 مليار يورو عوض 40 مليار يورو، وتحضر لمناورات عسكرية ضخمة مع حلفائها استعداداً لحرب شاملة، هدفها تقييم فعالية أسلحتها من الجيل الجديد، مثل قطعة المدفعية “سيزار” (CAESAR)، التي تميزت هي الأخرى في الحرب الأوكرانية الروسية والتي أنتجتها شركة “Nexter” الفرنسية، والتي يصل مداها إلى 42 كلم، ولها قدرة على التحرك بسرعة مع الدقة العالية في إصابة أهدافها، وقد اقتنى منها المغرب مؤخراً مجموعة من الوحدات خارج الاتحاد الأوروبي.

بريطانيا بدورها تستعد لمواجهة المتغيرات الجيو-استراتيجية الواقعة في أوروبا، مع اهتمام أكثر بحماية المنشآت الاقتصادية المتواجدة في أعماق البحار، مثل أنابيب الغاز وخطوط الاتصالات. هكذا، برمجت البحرية البريطانية تجهيز وحداتها بعتاد بحري يتكون من سفينتين “ميلتغول” من “multirole ocean surveillance ships” المزودة بطائرات “درون” الخاصة باستهداف الغواصات في أعماق البحار. السفينة الأولى من هذا النوع ستدخل حيز الخدمة سنة 2003.

الاختلافات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي لا تقتصر على مجال السلاح والعتاد؛ هناك نقاش قوي يتعلق بتعدد وجهات النظر فيما يخص التعاطي مع مخلفات ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية، فباريس وبرلين تعتبران الاستقرار الدائم في أوروبا يمر عبر تفاوض وتفاهم مع موسكو، في حين إن دولا أخرى، مثل بولونيا، ترى أن الخطر الذي يهدد مستقبل القارة الأوروبية هو عقلية التوسع المسيطرة على بوتين الذي يحن بحسبها إلى فترة الاتحاد السوفياتي، وبالتالي لا مفر من تحالف غربي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية تحت مظلة الحلف الأطلسي.

أوروبا مجددا مهددة في استقرارها الذي كان يعتبره البعض مكتسبا تحقق بشكل نهائي لا يمكن التراجع عنه، من كان يتوقع أن ألمانيا ستغير اختياراتها الاستراتيجية في ظرف وجيز، من خلال إعلان المستشار الألماني، أولاف شولز، عن إحداث صندوق خاص بمبلغ 100 مليار يورو هدفه الاستثمار في التجهيزات والصناعات العسكرية، مع تحديث بنيات الجيش الألماني والوصول في السنوات القادمة إلى نسبة 2% من الناتج الداخلي الخام مخصصة للدفاع؛ توجه مقلق إذا ما استحضرنا التاريخ الأسود للحروب في أوروبا إلى درجة أن دولا معروفة بحيادها، مثل السويد وفنلندا، قررت رسميا الانضمام إلى الحلف الأطلسي.