تحليل

أوهام مؤامرة المناورة والبنية السرية

إبراهيم بلالي اسويح ( محلل سياسي في الدبلوماسية والقانون الدولي )

تناسلت كتابات وفيديوهات على موقع "يوتيوب" بعضها تحركه بوصلة الفتنة ضد النظام المغربي أصحابها مافتئوا يعلنون عداءهم للمملكة جهارا نهارا، والبعض الآخر تخندق وراء حق يراد به باطل، سعيا لما يدعونه، لإنقاذ الملك من الخطر المحذق به وكأن تحديات بلاد وعباد المغرب الراهنة تختزل في كشف طلاسم هذا التآمر والأشخاص الذين يقفون وراءه.

الملك والملكية بالمغرب لا يمكن باي حال من الأحوال رسم حدودها فقط في صلاحيات دستورية مهما توسعت، بل إن الأمر لم يعد يحتاج لهبة من كان، فما بالك من أقلية تجهل عمق وجدانية ووجود هذه الرمزية لدى المغاربة المتجذرة في عمق تاريخي يزيد على ثلاثة قرون، بل وتلك الشرعية الدينية المتوجة بإمارة المؤمنين المقرونة بعلاقات بيعة متفردة عن كل دول الجوار وعموم افريقيا، ولها ما يكفي من التحصين لوأد المؤامرات الافتراضية إذا ما نحن سلمنا بأنها موجودة.

إن المناورات التضليلية الأخيرة والتي ردد مبتكروها غير ما مرة خطاب العدمية إظهارا لمحاولات يائسة للنيل من نظام المغرب بتسويقه، وقد بلغت منه الهشاشة عتيا، هم اليوم أنفسهم وراء إشاعة وجود تلك "البنية الشبه السرية أو السرية"، في تناغم تام مع نظريات المؤامرة التي تقوم على "تخيلات حكواتية" والتي تستعين ببعض المعلومات المتاحة، لكنها في المجمل لا اساس لها من براهين العلم وحقائق الواقع.

من يقف وراء هذه التوصيفات يدرك تمام الإدراك ان الأمن القومي المغربي حاليا والذي تأسست ركائزه بفضل مجهود مؤسسات الدولة الاستراتيجية بما فيها استخباراتية وأمنية وعلى رأسها رجال أثبتوا كفاءاتهم المهنية والسياسية، بل ولم يكونوا ذات يوم نكرة أو يمارسون وراء حجاب عن عموم المغاربة ولن يجحد أو يبالغ أحد داخل المغرب وخارجه، بأن ما تحقق من بناء لهذا المشروع الأمني القومي هو سابقة في التاريخ المعاصر للمملكة.

أمر سيدفعنا لا محالة لاستحضار منحى التحديات والأخطار التي واجهت ولازالت المغرب والمغاربة والتي عند تعدادها في محيطها الجيوستراتيجي المعقد والمتصاعد المخاطر، قد لا تنتهي بمباشرة ما هو أمني واقتصادي واجتماعي وبيئي وحتى رياضي.. مما أعاد للواجهة أولوية قضية الأمن القومي للبلاد وضرورة الإعداد لمرحلة "اقتصاد ومجتمع الحرب"، التي تفترضها مواجهة تحديات السياق الدولي المتقلب الذي يطبع مطلع الألفية الثالثة والتصادم القطبي الذي يلوح في الأفق راهنا ومستقبلا، تمهد له الحرب الدائرة أرجاؤها في أوكرانيا.

إن اختزال مؤشرات الاستقرار المتميزة "وهي للأمانة بشهادة عالمية "، في نهج سلوك قمعي لمجموعة من المسؤولين لا يخرج عن التغرير مما يفسر بأن هناك نتيجة حتمية محددة سلفا، من ذوي خطاب المظلومية ورغبة في الانتقام من عهدة الشمولية والديكتاتورية المطلقة التي يحلو استحضارها وكأننا، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

فسرد مؤسسات مترسخة دستوريا ورموزا بعينهم يدورون في فلك خدمة الملك والوطن لا يمكن أن ينطلي بحال من الأحوال على أنه اكتشاف سحري مزعوم "لبنية سرية او مؤامرة "، إلا إذا ما وضعناه في ذلك السياق المزاجي لتصفية الحسابات التي يغرد أصحابه خارج إجماع وطني، يؤمن بأن التحدي المحوري الذي يواجهه أي مغربي، مواطنا كان أم مسؤولا هو الموازنة المطلوبة بين حتمية الحفاظ على ثبات دعائم هذا النظام العام، وتوازنه مع ممارسة الحريات الفردية والحقوقية، وهي معادلة تؤسس لما يليها من رفاه في العيش، أما عدا ذلك فهو نشاز بل وتهديدا محتملا للاستقرار حتى في أعرق الديموقراطيات التي تتبجح باحترام حقوق الأفراد والجماعات.‎‎

إن السرية المزعومة والتي راهن من تفننوا في إثارتها على تضليل مقصود حول دينامية صنع القرار في المغرب، كان لابد لها ان تستحضر عقدين ونيف عمر العهد الجديد الذي كان فضل اوراشه الكبرى من هندسة هؤلاء المسؤولين إلى جانب عاهل البلاد، منذ بداية توليه لمقاليد الحكم عبر الترجمة الميدانية التي قطعت مع ماضي الرصاص بدءا بهيئة الإنصاف والمصالحة، مرورا بتقرير الخمسينية ومختلف الإصلاحات السياسية والحقوقية والاقتصادية وما تطلب ذلك من تحديث وعصرنة مؤسساتي وغيرها. ‎‎

كيف لمتبصر وهو غارق في عقلانية ترتيب أولوياته ومهتم في آن واحد بانشغالات بلده التي لم تعد بمنأى عن ما يجري عالميا، أن ينساق مع مثل هذه الافتراءات، وكأنها هي معضلة استشراف المستقبل المرغوب فيه لهذا البلد، وكأننا لسنا في مواجهة لا تنقطع لنيران الفتنة والانفصال والإرهاب، وهي ملفات أشرف ويشرف هؤلاء المسؤولين على إدارة تفاصيل حواراتها الأمنية الاستراتيجية وأبلوا بعيدا عن المبالغة البلاء الحسن في تدبيرها بكفاءاتهم المهنية والشخصية العالية التي لا تحتاج للإثبات في هذا المقال. ‎‎

البنية والمؤامرة وجهان لعملة واحدة عند هؤلاء المشككين لقياس درجات الذكاء ومستويات السذاجة للمتتبعين المفترضين خصوصا المغاربة منهم وتوجيهم، وتشتيت تركيزهم بصرفهم عن مزيد من الالتفاف لرص صفوف الوحدة، باللعب على قرائن التنسيق المحتملة خارج القانون، علما بأن البنية هي من أبجديات التنظيم والنظام، وترسيخ التنسيق كان سريا او علنا، أملته نجاعة الممارسة الدستورية ما بعد 2011 في توجه يجعل ريادة المملكة الشريفة أمنا واستقرارا واقعا رغم بعض التجاوزات وأخطاء التدبير التي لابد منها في مسار الإصلاح، الذي هو الآخر ضريبة نجاحه اتساع دائرة الحاقدين الذين لن تؤثر أوهامهم التآمرية الخيالية في مواصلته بثبات. ‎‎