محمد شرفي رئيس اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات في الجزائر، أعلن مساء الأحد 8 سبتمبر – أيلول عن نتائج الانتخابات الرئاسية، التي جرى الاقْتراع فيها السبت 7 سبتمبر. وهي انتخابات لم تُتابَع داخل وخارج الجزائر بترَقُّب لنتائجِها، وبالأحرى أن يَتوقع فيها مُتابع لها مفاجأة ما.
انطلقت حملتُها وقد سبقتْها نتيجتُها.. عبدالمجيد تبون، الرئيس والمرشح “الحر” هو منْ سيفوز بها. كانت تلك هيَ قناعة الشعب الجزائري، وهي أيضا قناعةُ الوسط الدولي الذي يهتم بالجزائر ويُتابع أوضاعَها، وهو ما عكسهُ الإعلام الدولي بكل حساسياته. وذلك ما حصل، ولم يكن أحد ينتظر منَ محمد شرفي أن يعلن غير ذلك.
شرفي، منَح لنفسه هامشا من الاستقلالية، حين قدَّم لتصريحه تقويما للعملية الانتخابية، يستبْطن نقدًا للوضع السياسي عامة، وهو يستنفر كُلَّ شجاعته الأدبية، مُثمِّنا العملية الانتخابية، والتي وَصفَها بأنَّها عكست نُضجًا انتخابيا، مُضيفا “في انتظار أن نَصل إلى النُّضج الديمقراطي”.
الرجل قال كلمة حق. سعى إلى تغيير “المُنكر” بلسانه، وهو سَعْيٌ محمود. وهو السعي غير المتوقع في إعلان نتائج الرئاسيات الجزائرية. المرشحون الثلاثة، أغضبهم محمد شرفي بطريقة تقديمه للنتائج وتكييفه لها. لم يعترضوا على النتائج، في بيان أصدروه مساءَ الأحد، لاحظوا أن الأرقام فيها اختلالات وأنها ضبابِية وقالوا ما معناه أنها خالَطها انْعدام الدِّقَّة.
لم يكن مُتوقَّعا أن تكون الرئاسيات الجزائرية مَجالا أو مَدخَلاً أو رافعة للنضج الديمقراطي، وهي التي انطلقت من جهة الرئيس تبون بتهميش التعددية الحزبية حين ترشح “حُرًّا” فيها. هو مُرَشّح حُرٌّ في الشكليات وحسب، كما سنرى فيما بعد. يهمُّنا قبل ذلك تسجيل أن الرئيس استبعد حوالي 26 حزْبا من “شرَفِ” ترشيحه. في انتخابات قوامُها مُقارعة البرامج السياسية لبعضها البعض، وعرضها على الناخبين. والأحزاب السياسية هي المُخوَّلة بإنتاج تلك البرامج عبر تفاعلها مع قواعدها الشعبية، لتعبر عن حساسية مجتمعية. الرئيس لم يَرَ ضرورة دَعم التعددية السياسية عبر اختيارِ واحدٍ من الأحزاب المُشكِّلَة لها، أو حتى تأسيس حزبٍ آخر يقترحُ أفكارًا مُغايِرة وجديدة تدعم الاختيار الديمقراطي.
اختار الرئيس أن يتقدَّم للانتخابات دون أي لباس حزبي، رغم أن ستة أحزابٍ أعلنت رسميا عن مُسانَدَتها له. ومن بيْنها حزب جبهة التحرير، الذي أنتج النظامَ الجزائري، وحزب حركة البناء الوطني لعبدالقادر بن قرينة، المُتخصص في مُعاداة المغرب.. مُرشَّحٌ تدْعمُه أحزابٌ و”يترَفَّع” عن الترشيح الحزبي. إنَّه التعبير “الرَّسمي” عن أن التعددية الحزبية لا وَزْن لها في الجزائر، ولن تكون مَسلكا للنضج الديمقراطي.
النظام السياسي الجزائري مُعاقٌ عن بلوغ النضج الديمقراطي بسبب جوهره العسكري، الذي طبَعته به “جبهة التحرير” منذ 1962 حين فرضت نفسَها لحكم الجزائر، ضد الحكومة المؤقتة المدنية. وفي هذه الانتخابات نفسها لم يكن المرشح تبون حرًّا، كما أوْحى بذلك. كان لا بد أن يُرشِّحه الجنرالات المُتحكِّمين في قيادة الجزائر. وتطلَّب ذلك وقتا طويلا، عَكَسَ تردُّدَهم وصعوبة اتّفاقهم حول ترشيحه. والأكثر وضوحا في عسكرة النظام هو مشاركة الجيش في التصويت لانتخاب الرئيس. كان ذلك التعبير الرسمي عن أن الجيش هو “الحزب” المساند للرئيس. مثل هذا لا يحدث إلا في نظام عسكري تام العَسْكرية، ويصاحبها بتأجيل مُعلن ومُبَرمج للديمقراطية.
حوالي نصف مليون، هو تعداد القوات المسلحة الجزائرية، الفعلية والاحتياطية وشبه العسكرية. قوة كمّية تفوق تعداد مُنتسبي كل الأحزاب الجزائرية ومعها روافدُها الجمعوية، ولها سنَدٌ في الموْقع النوْعي للجيش في إدارة الحكم. كل هذه الكُتلة تنْخرط في عمليةٍ انتخابيةٍ سياسية، يُفترَض أن فيها تنافسا انتخابيا برامجيا، ويُفترَض قبل ذلك أنَّ الجيش هو لكل الوطن، قوةٌ صامتةٌ، غيرُ منحازة في التدافع الديمقراطي.. إلا في الجزائر، هي كتلةٌ احتياطية سياسية لفائدة مُرشَّح الجنرالات، وفي هذه الحالة تكون قد صوتت لصالح عبدالمجيد تبون. وإلا هل هناك جيشٌ في العالم يتحرّك دون توجيهات وتعليمات وأوامر، والجيش الجزائري لا يشذ عن هذه القاعدة، وهو مُعتادٌ عليها.
محمد شرفي رأى، من مَوْقعه وخبرته واطِّلاعه، أن “النضج الديمقراطي لم يصل إبَّانه بعد”. وكيف له أن يصل والجيش مُسَيْطر على النظام السياسي، بحيْث يتكرَّس انفصال النظام عن شعبه في كل استحقاق أو استشارة انتخابية، لأن إرادة الجيش تسمو أو تعلو بالفَرْض على إرادة الشعب.
الشعب يطمح إلى حياة كريمة يؤمِّنها في وطنه ومن خيراته، والجنرالات لهم حسابات انتفاعهم من تلك الخيرات ويعرضون الوطن في استفزاز لمخاطر له أو في افتعالها، ضمانا لمركز لهم، مفترض، في “درء” تلك المخاطر. منذ أن قالوا في بداية ستينات القرن الماضي إن الجزائر تتعرض “للحكرة” وإلى اليوم، وقد “اجْتَهد” المُرشَّحون في الانتخابات الرئاسية، وأوّلهم المرشح الفائز عبدالمجيد تبون، على “التحذير” من مؤامرة مغربية مُحتملة ومُتربصة بالجزائر. ولا أحد في المغرب يتآمر أو يتربَّص بالجزائر. بينما سياسة القيادة الجزائرية هي من ينفخ، بالسياسة والمال والسلاح، في استفزاز المغرب بمنازعته في حقه الوطني الوحدوي على مدى نصف قرن. والجزائر هي من أشعل توتُّرا حقيقيا مع مالي ومع ليبيا، قابل للانفجار. والسياسة نفسها هي ما أدت إلى توترات للجزائر، لا مُبرر لها، مع فرنسا ومع إسبانيا، وطبعا مع كل دول الساحل والصحراء المُجاورة للجزائر.
المضمون السياسي للحملة الانتخابية الرئاسية، لم يتعرف فيه الناخبون على أنفسهم وعلى آمالهم. الوعود خبروها ويئِسوا من إمكانية تحقيقها، وأيضا تآمر المغرب أو خطره على الجزائر تعوَّدوا على بُهتانه.
فلا عجب ألّا يشارك في التصويت الفعلي سوى حوالي 23 في المئة من الناخبين… أقل من ربع 24 مليون ناخب مُسجل، “تبرع” بصوته لتبون. بذلك فاز بالرئاسة، غير أنَّ الرقم نفسه تعبير عن استمرار أزمة النظام الجزائري في اكتساب ثقة شعبه. يُقدَّم الأمر على أن حوالي 95 في المئة من الناخبين اختاروا تبون. وهو رقم من “العصر الحجري” للديمقراطية في العالم، ولكن ترجمته هو حوالي خمسة ملايين وثلاثمئة وعشرين ألف صوت. ومن أصل كتلة ناخبة تِعدادُها أزيد من 24 مليون ناخب. ولم يتحدث رئيس السلطة المشرفة على الانتخابات عن نسبة المشاركة ولا عن عدد الأصوات المُلغاة.
نسبة المشاركة المُعلنة كانت 48 في المئة مساء السبت 7 سبتمبر، ولا أثر لها في النتائج المُعلنة. المرشحون عابوا على شرفي أرقامَه غير الدقيقة. لكن عبدالقادر بن قرينة، الشهير بتصريحه الذي وعد فيه كل الشعب الجزائري بالجنة، كأنه حارسها العام أو كأنه عالم بأسرار يوم الحشر، تمنّى أن تتجاوز المشاركة في الانتخابات نسبة 23 في المئة، واعتبر ذلك دليل نجاحها. تحققت أمنيته، ولامست المشاركة 23 في المئة. ولكنها أبانت عن استمرار “الفَقر الشعبي” في “الدورة الحيوية” للنظام.. انتخابات لم يُقاطعْها أيُّ حزب، ودعَّمَها فِعليا أكثر من 10 أحزاب وتجنَّد لها الإعلام بكل وسائله، ولم يشارك فيها إلا أقل من 23 في المئة من الناخبين.
الرئيس تبون فاز فعلا وتستوجب تهنئته، بأرقام صحيحة أو مُعتلة.. ولكن الأمل أن يوظف رئاسته في تقويتها بالشرعية الشعبية ويدعمها بسقيها بالواقعية وبالأخوة المغاربية الحقيقية التي تنفع الجزائر وتضعها في الاتجاه الصحيح للتاريخ.