قضايا

الأسرة بين وجع اعتقاد ومخاض حقوق: 8 - اختلال في التوازن (ج)

سامر أبو القاسم

الانتقالات الإيجابية على مستوى الدمقرطة والتحديث داخل المجتمعات، وكذا التحولات الاجتماعية والثقافية والتربوية، كانت ولا تزال في حاجة إلى تفكير وتنظير وتخطيط وبرمجة وأجرأة، وهو ما يستدعي التحلي ببعد النظر وطول النفس.

وإذا ما تم استحضار مطلب المساواة كمفصل من مفاصل هذه الانتقالات والتحولات، فإننا نجد بأن كل أشكال وأنواع التمييز ضد المرأة منغرسة ومتجذرة في الذهنيات والعقليات وفي نسيجنا المجتمعي وفي غالبية تجاربنا وتفاعلاتنا اليومية، بالشكل الذي يصبح معه التفوق الذكوري يحتل مساحة كبيرة من التفكير الجماعي والمنظوارت الفردية والتعاملات الجارية.

فعدم حضور المرأة في السياسة والعمل السياسي بالدرجة المطلوبة غالبا ما يعزى إلى ذاك التوزيع المنطلق أساسا من فكرة أن المرأة مكملة فقط لأدوار الرجل، وبالتالي فهي تستبعد من دوائر اتخاذ القرار. وكثيرا ما يتم رده إلى أن خشونة الحياة السياسية غير ملائمة للنزعة العاطفية للنساء المتصفات بالرقة والحنان، وفي بعض الحالات يفسر على قاعدة أن اهتمامات المرأة في المجال السياسي ليست كبيرة مقارنة مع اهتمامات الرجل..

وأمام مطلب المساواة ينتصب البعض واقفا مدعيا تارة الأولوية للتصدي لحل مشكلات أخرى أكبر، وأن الأمر يتطلب تحليا بالصبر أكثر، وأن إجراءات التمييز الإيجابي من أجل تيسير إدماج المرأة أظلم وأحقر، وكل هذا يخفي رغبة حثيثة في عرقلة مسار النساء للوصول إلى مراكز القرار. وهي كلها مبرارت ومسوغات للعمل على إعادة إنتاج نظام سيء مبني أساسا على عقدة التفوق الذكوري، واختزال النظر إلى المرأة من زاوية الدونية مقارنة بالرجل. وهو ما يعطل آليات مساءلة أشكال وأنواع اختلال التوازن في النظام العام وأوجه التمييز ضد المرأة.  

كل طرق وكيفيات وصيغ العرقلة والفرملة في مجتمعاتنا اليوم، وخاصة منها تلك التي تطال مطلب المساواة، لا يمكنها إلا أن تزيد تعقيدا لحل مشكلة التمييز ضد النساء، وتعمل على إعادة إنتاج نظام تبعية النساء للرجال، وهي في أحسن الحالات تعمل على إرجاء حل المشكل وتعطيل تفعيل آليات التنمية والدمقرطة والتحديث بالنسبة للمجتمعات بصفة عامة.

والحال أن سعي الدول والمجتمعات معا إلى تيسير شروط وظروف استفادة النساء من التمثيلية السياسية والحد من نسب التمييز ضدهن وإعادة الاعتبار لهن بدل إقصائهن وتهميشهن، سيعمل على استعادة العمل السياسي لمشروعيته، وهو أمر على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لهذه البلدان على مستوى مواكبة مسار التطور والعصرنة والتحديث، ومحفز قوي للأجيال الحاضرة من أجل امتلاك الجرأة الكافية والقوة الاقتراحية اللازمة لتجاوز التقديرات والترجيحات السالفة المحددة لاختيار طبيعة وشكل التعديلات المدخلة على قوانين الأسرة، ولمواجهة معضلة التعصب الديني والمذهبي في نمط التفكير الفقهي السائد. 

فمنطق التطور يقتضي التكيف التدريجي مع مستجدات الواقع والاستفادة من خلاصاته، ويفرض طرح إشكالية الملاءمة بينه وبين القواعد التشريعية المؤطرة له، وإلا أصبحت القاعدة التشريعية مُنمطة ومغلفة ومحنطة للواقع، ومحدثة للعديد من الثغرات والنواقص، وغير قادرة على الحد من السلوكات الخارجة عن قيمه وأعرافه.

وهذا بالضبط ما يدفع إلى عدم الالتزام بالضوابط القانونية داخل مجتمعات اليوم، ويدعو إلى إعادة النظر في وضع المرأة وحل مشاكلها، في إطار ما تراكم من قابلية للانفتاح والتنوير. خاصة وأن الدين الإسلامي لا يدعو إلى التقوقع على الذات والتحجر للتخلف والتموقع في صفوف الرفض والمناهضة للاجتهاد، بل قد يفرض في شروط عيشنا هاته المساهمة الفاعلة في بلورة قيم حقوقية وإنسانية ذات طابع عالمي، من خلال الموروث الديني والثقافي الموسوم بالغنى الذي ينبغي توظيفه.

وفي هذا المقام لابد من التأكيد على أنه يكفي أن يقوم المجتهدون ببذل الجهد الكافي واللازم للإجابة عن المشاكل القائمة في الواقع، وتفادي الاكتفاء بالوقوف عند النصوص وظاهرها، وعند حدود قراءة منتوج السلف، والانفتاح على المقاصد التشريعية العامة، وإعمال العقل والتفكير بما يناسب معطيات وخصوصيات العصر، لتنال المرأة ما تستحق من كرامة وحرية ومساواة، ولتتبوأ مكانتها داخل المجتمع، ولتحصل على ما يلزمها من تقدير للذات داخل محيطها، ولتتعزز قدراتها على التفاعل الإيجابي والمثمر مع الرجل، ولتتقوى وظائفها وأدوارها داخل الأسرة ومختلف الإطارات والمؤسسات.

فالضرورة اقتضت أن تنبني العلاقة الزوجية على مفهوم التعاقد، وعلى ألا يُترك الإنسان لغرائزه فتنطلق دون وعي وبلا ضوابط. لذلك كانت العلاقة الزوجية تعبيرا عن كونها سنة من سنن الحياة، تقوم بين ذكر وأنثى كطرفين متعاقدين، بكل ما يعنيه التعاقد من دلالات التشارك في رعاية هذه العلاقة.

ولا يمكن لمفهومي التعاقد والتشارك أن يقوما إلا بناء على فهم مخصوص غير قابل لتأويلات خارجة عن سياق رضا الطرفين وتوافق إرادتهما في الارتباط، الذي يعبر عنه شرعا وقانونا بالإيجاب والقبول. وإذا كان من فهم سوي للعلاقة الزوجية التي يراد لها حقيقة أن تبنى على التفاهم والانسجام، والتي يراهن على مساهمتها في استقرار العلاقات الأسرية المترتبة عنها، فهو لا يخرج عن مدار الوقوف الجدي على مدى تحقيق وتجسيد شروط إنجاحها على أساس رضا الطرفين المتعاقدين.

وغير ذلك من الاجتهادات الاشتراطية لا يمكن إدخالها سوى في باب الضوابط التكميلية، إن كان لا مناص منها، بما لا يهدم مقومات وأسس مفهومي التعاقد والتشارك بين الطرفين.

وعلى هذا الأساس، فاختزال العلاقة الزوجية في بعد المنفعة الجنسية وتكريس عقدة التفوق الذكوري ودونية المرأة ما هو إلا انحراف بهذه العلاقة عن جادة التعريف الدقيق والصائب لها، بفعل العديد من الاشتراطات المكرسة لذلك التمييز السلبي ضد المرأة كطرف متعاقد ومشارك في هذه العلاقة. وهو ما سمح بالخروج عن الفهم السليم، عبر ترتيب العديد من الأركان والشروط غير المعقولة ولا الواضحة ولا الشفافة فيما يمكن تبريره من تقويض أسس المساواة في الحق في الاختيار وترتيب الحقوق والواجبات داخل بيت الزوجية وفي إطار العلاقات الأسرية.

إذ أن العلاقة الزوجية لا هي بعقد يفيد المتعة قصدا، ولا هي ملك للذات في حق الاستمتاع، ولا هي ملك للانتفاع بالبضع وبسائر أجزاء البدن، ولا هي عقد مقصور على ضمان ملك الوطء بلفظ الإنكاح أو التزويج، ولا هي عقد على مجرد متعة التلذذ بآدمية، ولا هي عقد بلفظ إنكاح أو تزويج على منفعة الاستمتاع، ولا هي كما تصورته وطبقته مختلف المذاهب الفقهية على أرض الواقع منذ زمان، لما في ذلك من تشييء وتبضيع لأحد طرفي هذا التعاقد والتشارك، الذي هو المرأة طبعا.

وهذا الفهم البشري الذي تم إسقاطه على مفهومي التعاقد والتشارك في العلاقة الزوجية باسم القواعد والضوابط الدينية والشرعية، هو الذي أدى إلى جعل المرأة معقودا عليها في الزواج، وهو الذي رتب حكم عدم أحقية المرأة في مطالبتها الزوج بالوطء؛ على اعتبار أنه حق للرجل دون المرأة، والحال أنه عقد ينبني على المنفعتين معا. فإطار هذا الفهم المتخلف للزواج والمنحرف عن قواعد وضوابط مفهوم التعاقد والتشارك، هو الذي يجعلنا نعتبر أن الهدف من قوانين الأسرة في البلدان الإسلامية ليس دينيا ولا شرعيا، بقدر ما هو دعم وتعزيز للأسس الاجتماعية التي تعيش عليها هذه البلدان.

وعليه، فالتعديلات المزمع إدخالها على هذه القوانين ينبغي لها أن تكون متجاوزة لذلك الفهم المتخلف للعلاقة الزوجية السائد في الموروث الثقافي، والذي انعكس في وقت سابق على تعريفات الفقهاء، والذي يريد تأبيده غير المواكبين للتطوارت والتغيرات الحاصلة في المجتمعات والعقليات المعاصرة. والأجدر بنا اليوم العمل على ألا يحافظ هذا الفهم على تجلياته في صياغة تعريف للزواج، وعلى تمظهراته فيما يليه من فصول ومواد منظمة ومفصلة لجزئيات هذه العلاقة على مستوى تحديد الحقوق والواجبات لكلا الطرفين، ضمانا للحفاظ على جوهره المتمثل في كونه ميثاق ترابط وتماسك بين رجل وامرأة على قاعدة المساواة والإنصاف.

فإسناد حق التعاقد إلى المرأة لا يعني سوى التنصيص على حقها في مباشرة عقد الزواج، بنفس الصلاحيات والشروط المنصوص عليها بالنسبة للرجل؛ أي بشكل متساو. كما يدل على وجوب التنصيص على عدم التمييز في مجال القيام بالأعباء، إلا ما كان من استثناءات تقتضيها ظروف عدم تمكين المرأة اقتصاديا وتنمويا وتاريخيا وثقافيا، مراعاة لتأخر مؤسسات الدولة في ضمان الحقوق والحريات والرعاية والحماية الاجتماعية اللازمة.

لأن ضمان شروط ولوج العلاقة الزوجية من باب هذا الفهم التعاقدي والتشاركي يساهم بقدر كبير في الإجابة عن العديد من المشاكل التي تشكل مقدمات الإخلال بمفهوم الاستقرار الأسري، من حيث الحرص على خلق شروط التفاهم والانسجام بين الطرفين المتعاقدين، وتبادل التقدير والاحترام بينهما، والإعلاء من قيمة المودة وصيانة الأسرة والحرص على سلامتها وأمنها وطمأنينتها، بما يقوم بين المرأة والرجل من حسن معاشرة. ومن هنا نكون قد تجاوزنا النظر إلى العلاقة الزوجية باعتبارها علاقة جنس واستمتاع، وأدرجنا باقي مكوناتها كتوابع ومترتبات عن هذه العلاقة داخل الفضاء الأسري العام. لأنها في الأصل تشكل بوابة لإقامة أسرة وحفظها ورعايتها وتقوية وشائجها.