سياسة واقتصاد

قيامة معاوية

خالد فتحي

تعرفت على معاوية بن أبي سفيان في الخامس ابتدائي. فقد كنت أنا وأقراني في القسم محظوظين جدا بمعلمنا للغة العربية سي عمر رحمه الله الذي كان يخصص ربع الساعة الأخير من كل حصة دراسية ليثقفنا حول سير الأنبياء والرسل والصحابة .وأذكر أنه حكى لنا ضمن ذلك عن خلاف الصحابة واقتتالهم بعد استشهاد الخليفة الثالث عثمان ، و أنه قص علينا في سياق ذلك صراع علي ومعاوية وحروب الجمل، وصفين، والنهروان، وخدعة التحكيم وازمة الانشقاقات التي رتبت عنها ، ومؤامرة الخوارج للتخلص في فجر نفس اليوم من معاوية وعلي وابن العاص ،وذلك بأسلوبه الشيق المحبب .لن انسى ابدا أنه كان يصر علينا أن ننطق اسم كل من علي ومعاوية وعمرو مقرونا بلازمتي سيدنا ورضي الله عنه.سأكبر قليلا ،ويكبر معي فضولي،وسأقابل معاوية مرة أخرى عند طه حسين في كتابيه عثمان وعلي وبنوه، ثم سأصادفه بعد ذلك في كتب هشام جعيط وعلي الوردي و كتب آخرين...فكان أن استخلصت بمرور المؤلفات بين يدي أن معاوية الصحابي كاتب الوحي لاتثريب عليه ، وأن معاوية الخليفة هو شخصية ثانية مختلفة صاغتها التحولات التي عرفتها الدولة الإسلامية التي توسعت إبان العهد الراشدي ماشاء الله لها آنذاك أن تتوسع .تبينت كذلك أنه كان رجل سياسة من عيار رفيع ، وداهية محنكا يحسن انتخاب مستشاريه و تجميع بطانته من الدهاة والاستراتيحيين أمثاله، ويتقن أن يتألف الناس ويسترضيهم ويعبأهم في ركابه ، وفوق ذلك كان فاتحا عظيما وحاكما لبيبا ،لكني بالمقابل لمست في سيرته برجماتية خالصة وطموحا جارفا حقق منه ماحقق و ارتكب من أجله من خطايا السياسة ماارتكب.لقد عاش طالبا لمصلحته أولا ثم مصلحة بني امية، وقريش والعرب ، والأمة الاسلامية ثانيا .هو في النهاية قد كان مثل جميع البشر له ماله وعليه ماعليه. ولذلك لم أتأخر في أن أصطفي لنفسي تأويلا لأحداث الفتنة الكبرى عدلت فيه بينه وبين غريمه علي : فأحببت عليا لمثاليته وتقواه وورعه وشجاعته وحبه للضعفاء والمظلومين، و أعجبت بمعاوية هذا لواقعيته وبرجماتيته وحنكته الدنيوية.بهذه الحيلة النفسية ،ظللت أراهما معا ضمن كوكبة الصحابة الغر الميامين الذين قال عنهم الرسول الكريم بأنهم نجوم بأيهم اقتدينا نهتدي.

دائما أنظر إلى ماجرى بعد مقتل عثمان من وجهة نظر فكرية بحتة.كنت اقرأ عن تلك الفترة كما لو أني اقرأ رواية ،ولذلك لا أنزعج أبدا حين أراها تشخص تلفزيونيا، فالرواية تلفزيون يبث في المخيلة. زد على ذلك أني اعتبر أن تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولنا نحن ماسنكسبه بعدها ، وأنها أمة اجتهدت فأصابت وأخطأت ،وهذا ماجعلني أرى أن هناك دوما فائدة تجنى في أن أطلع على كل الروايات،و لا أخفي أني كنت أجد لذة بالغة فيما تتناقض وتتعارض فيه فيما بينها . ولذلك لم أزور نهائيا عن هذه المسلسلات التي تتعرض لأحلك فترة في التاريخ الإسلامي، مادامت تستحث فينا حاسة البحث العلمي، ،و لا تستحيل لذريعة لإضرام فتنة ضروس بيننا وبينها 14 قرنا .

 وهكذا خرجت من حيوات معاوية بخلاصة مفادها أنه رجل الأقدار الذي أجبرته جيناته وبيئته والأحوال السياسية التي تقلب فيها على أن يكون ماكان : امويا قرشيا ميكيافيليا حتى النخاع خلط عملا صالحا بعمل طالح .

رجل بهذا الثقل التاريخي ،لقمين بأن يثير مسلسل يتناول حياته كل زوابع النقاش العاتية هاته .فقد كان شخصية جدلية بامتياز، كما انه ماكان بوسعه أن يصبح بطلا لمسلسل دون أن تنازعه البطولة فيه أيقونة إسلامية أخرى تحمل اسم على بن أبي طالب. 

من تبعات بث مسلسل معاوية ،أنه استقبل استقبالا مختلفا من المتابعين : حرم الأزهر مشاهدته لأنه لايجب في رأيه أن نجسد شخصيات الصحابة، فقد يرتبط محيا الممثل بالصحابي في مخيلة المشاهد، ثم ينغمس هذا الممثل بعد ذلك في دور غير لائق في مسلسل آخر فيتبدد بهاء الصحابي وتتضرر مكانته في النفوس .قضية التطابق بين الممثل والشخصية التي يؤدي دورها صحيحة جدا ،فأنا مثلا،وإلى الآن تحضرني مباشرة صورة الممثل عابد فهد كلما أثير اسم الحجاج الثقفي امامي ،و كذلك وجه ممثل ايراني لااذكر اسمه الآن،كلما تخيلت النبي يوسف ،وقد رأيت فعلا لعابد فهد أدوارا دون دور الحجاج قيمة،و صورة للممثل الإيراني على مواقع التواصل الاجتماعي ذوى فيها حسنه وجماله ،هل ياترى يكفي هذا الخلط لتحريم تجسيد الصحابة؟.في رأيي أجد هذه العلة غير كافية .فالصحابة مقدسون في علاقتهم بالنبي ، أما غير هذا فهم أناس قد يصدر عنهم الخير وقد يصدر عنهم الشر. اذ لاعصمة إلا للنبي،وهو وحده من لاينبغي تجسيده لأنه يقول عن نفسه في الحديث الشريف أن من رآه قد رآه حقا لان الشيطان لايتلبس به. ،فكيف والحالة هذا ندفع بممثلين كي يتقمصوا شخصية الرسول الكريم دون أن نكون قد شطحنا فنا ودينا .          

 العراق منع المسلسل ،وهذا مفهوم جدا نظرا لطبيعة المجتمع العراقي الفسيفسائية ،ولطراوة ذكرياته الأليمة ، ولذلك من حقه أن يصون تماسكه تلافيا لنعرة او فرقة ،ولو كانت مجرد احتمال.

منتجو المسلسل يدافعون عنه ببسالة. ،حجتهم في هذا الدفاع أن الدراما ليست تاريخا خاما ،وإنما هي إعمال لخيال المؤلف في التاريخ بحدود وبتصرف في نفس الان .

وبالتالي هم مقدرون أن أحسنوا وغير مسؤولين إن انحذفوا. المسلسلات التاريخية تبحث عن الفرجة، أما من حيث الحقيقة التاريخية ، فهي تروي حقيقتها .في الواقع لاتوجد حقيقة، بل حقيقتان وثلاث وأكثر وذلك بعدد زوايا النظر.

لست اظن منتجي المسلسل إلا سعداء بهذه الدعاية المجانية التي يوفرها لهم المنتقدون والمانعون له ، وإن تظاهروا بتبرمهم من ذلك . ثم إنه إذا أضفنا إلى هذا النقع السجالي الذي أثارته الحلقات الأولى للمسلسل ،كونه قد صرف عليه 100 مليون دولار،وكونه ظل في ثلاجة القناة حولين كاملين ينتظر التوقيت المناسب للظهور،فإننا سنستوعب لماذا استكمل كل عناصر الإثارة والتشويق التي ستجعل الجمهور يتحسس ساعة يده كل يوم ترقبا للحلقة القادمة .

الجمهور كتلة غير عاقلة يمكن توجيهها،والمسلسل بهذه الملابسات قد نجح في هذا التوجيه .بعض الجمهور سيشاهده لأنه متعطش بحكم انتمائه المذهبي لمعرفة حكم المنتجين ليس على معاوية فقط ، وإنما على فترة الفتنة الكبرى برمتها ، اما اغلبه فسيتسمر امام الشاشة بدافع الفضول لاغير . سألت صديقا لي ذو مستوى علمي عال تابع الحلقات الأولى عن رأيه فيها ،فأحاب انه يسمع بمعاوية لاول مرة واضاف بانبهار ان العمل ضخم ومعجز .مثل هؤلاء صفحة بيضاء، وبالتالي قد لايكون لهم الوقت كي يستمعوا للسردية المخالفة فيما بعد .فهل يمثل معاوية المنبعث من قبره في زمن سلطان الصورة خطورة على النظام الإقليمي العربي؟ ،هل يكون معاوية الذي قامت قيامته مبكرا عود ثقاب يشعل الفتنة المذهبية النصف نائمة ؟ .أعتقد جازما أن مثل هذه المسلسلات هي على العكس دليل صحة وعافية .لأنها تنقل الصراع الطائفي من الميدان إلى المستوى الإبداعي الفكري الدرامي،وبالتالي عوض أن تجري الصدامات على مستوى الواقع ستجري على الشاشات حيث الخسائر حقيقية . التلفزيون والدراما يمكن أيضا أن يقوما بنفس دور كرة القدم التي تنقل غريزة الاقتتال المتأصلة لدى الشعوب إلى الملاعب. اليوم معاوية، وغدا علي، بل إن عليا حاز قبله الكثير من المسلسلات .إن الدراما لما تعطي فرصة لبعض السرديات ،فهي تقوم بتنفيس الطنجرة الطائفية ،وتخلخل بعض الأصوليات المتضخمة التخيلية عن الذات ، وتنبه الناس إلى تحري النسبية فيما يسمعون ويقرأون ويشاهدون، فيتملكون أكثر حاسة النقد.

حين تنازل الحسن بن علي لمعاوية عن الخلافة سمي ذاك العام عام الجماعة.ولقد تلته 20 سنة من الاستقرار في ظل الحكم الأموي بدمشق سيرت فيه الفتوحات بعد انقطاع حتى أن عددا من الصحابة أبنائهم شاركوا في عهد معاوية في حصار عاصمة بيزنطة القسطنطينية ايستانبول حاليا كعبدالله بن الزبير وعبد الله بن عباس، وعبدالله بن عمر وابي أيوب الأنصاري. لقد تحقق الإجماع حول معاوية ،وكان بوسعه أن يكون الخليفة الراشد السادس بعد ابي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن. لكنه ربما أخطأ بتولية ابنه يزيد، هو من كان بامكانه ان يعهد للحسين بن علي بالخلافة ، فيأخذ كل التاريخ الاسلامي والعالم برمته بذاك مسارا آخر مختلفا تماما .بعض المحللين يقولون إنه فعلا ذلك مضطرا لأن عصبة الحكم كانت بدمشق، وبالتالي كان هدفه من تولية ابنه ان تبقى الإمبراطورية الإسلامية موحدة .

 سيكون المسلسل مفيدا على الأقل من خلال الحمولة اللغوية والتاريخية ومن حيث تحقيقه توازنا مفقودا في السرديات التلفزيونية التي تناولت هذه الحقبة العصيبة من تاريخ المسلمين ومع ذلك، فتوقيت بث المسلسل لايخلو من رسائل و إشارات مقصودة وغير مقصودة . الدراما التاريخية هي دائما هكذا فن وتاريخ وسياسة وغايات ترتجى . أول الإشارات أنه يتزامن وصعود سلطة جديدة في دمشق ،وبالتالي مسلسل معاوية يحرض على اعادة بناء مجد غابر ويحيل حكام دمشق الجدد على التوجه العربي لدولة بني أمية ،وهو المطلوب الآن منها من قبل حاضنتها العربية ومن السعودية راعية المسلسل وخصوصا بعد الانحسار الإيراني اللا فت عقب طوفان الأقصى .ثم هو إعلان حنين من الذات العربية إلى الإمبراطورية العربية المترامية الأطراف في زمن تتلمس فيه الامبراطوريات الأخرى طريق الانبعاث من جديد ،روسيا القيصرية،الإمبراطورية الأمريكية،و كذا سعي أوروبا الحثيث للوحدة باهتبال فرصة تخلي ترامب عن أوكرانيا .

كل هذه الإشارات لم تسع لها الجهة المنتجة للمسلسل جميعا بل ربما لبعضها ، لكنها لاتسوءها 

مسلسل معاوية خلق الحدث الدرامي خلال رمضان بعد بضع حلقات فقط ،وقد تمكن من ذلك، والأحداث لم تبلغ فيه ذروتها بعد .سننتظر ونتابع كل الحلقات لنعود في نقد وتقييم شامل لها آملا أن ننظر لمثل هذه الدراما كترف فكري لايفسد لوحدة المسلمين قضية. فنحكم أن كان عملا ابداعيا حقا يخدم قضايا الأمة ام يعمق جراحها وانقسامها.

  علينا أن نعي أن الدين نزل مع محمد صلعم ،وأن التدين فهم المسلمين للدين ،و انه في الحقبة النبوية كان الدين يتماهى مع التدين بفضل الاتصال القائم بالسماء ،وبعدها ، كلما بعد بنا العهد عن عقود النبوة السمحاء،كلما اختلف في التدين وفي سبل الوصول للسلطة وممارستها . ان التدين والصراع على السلطة كلاهما اجتهاد بشري .لا ينبغي ان يبلغا لحد ان يتضرر تقبلنا للدين في ينابيعه الصافية .