وفي قلب هذا العبث تستمر سياسة "الفراقشية" والدعم الريعي: للأبقار، للغنم للماعز للإبل، للدواجن للبيض... دعم مباشر وغير مباشر بلا أثر ملموس، بل بفاتورة تثقل كاهل الدولة وتعني شبكات الربع. حكومة لا تجد حرجًا في الإعلان عن استعدادها لدعم “ملايين" من المواطنين، بينما المطلوب ليس مزيدًا من الدعم، بل الخروج من منطق الدعم أصلاً.
إننا بإصرارنا على الدعم بدل التشغيل نكرّس اقتصادًا خاملاً، لا يُنتج ولا يُنافس يتوسل البقاء بالإنعاش ترعى مواطنا لا شريكًا تغرق في خطاب العطف بدل التمكين، وننسى أن المساعدات لا تصنع أمة. الدول التي تقدمت لم تفعل ذلك عبر صناديق الدعم، بل عبر العدالة الاجتماعية، وجودة التعليم، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
لا يمكن فصل هذا المشهد عن ما أصبحت تعرف به بعض التيارات الحزبية من الفات السياسية مرتجلة، وجدت في القفف وشعارات الدعم "واجهة دعائية رخيصة لتلميع الصورة والهروب من مسؤولية صياغة سياسات تنموية حقيقية. إن القفف لم تعد مجرد مساعدة ظرفية، بل تحولت إلى رمز السياسة، وامتهان أفرغت من بعدها الإنساني، وصارت توزع بعدسات الكاميرات.
لأستعمل كأداة انتخابية تمشٍ جوهر كرامة الإنسان. تقض الأحزاب لا تملك الجرأة على إصلاح التعليم ولا القدرة على النهوض بالصحة، ولا مشروعًا للاقتصاد الاجتماعي، فتمعن في تسويق صور “الخير وحتى الجود"، وكأنها تعطي من جيبها، بينما تعيد إنتاج الفقر، وتطبع مع التهميش، وتديم التبعية. إنها سياسة بصرية، لا بصيرة فيها، تسوق الفاقة بدل أن تحاربها وتعيد تدوير المعاناة بدل معالجتها.
إن المغرب لا تنقصه الموارد الطبيعية فقط، بل تنقصه أكثر سياسات شجاعة في تدبير الموارد البشرية. لدينا طاقات شابة في الأحياء الشعبية، وفي القرى والجبال، تصنع المعجزات حين تُمكن من أدوات الإنتاج والتمويل والتكوين. هؤلاء لا ينتظرون صدقة، بل ينتظرون من يفتح لهم باب الفرصة.
لا يبقى أن نشير إلى ما هو أخطر: إن التعامل مع الفقر والفقراء وكأنهم احتياطي انتخابي دائم، يعيش على جرعات محسوبة من "الخير"، هو تبخيس وطن، وامتهان لكرامة الإنسان. الفقر لا يُعالج بالصدقة، ولا بالبرامج الموسمية ولا بالقفف التي توزع بالكاميرات، بل بسياسات تمكن الإنسان من الوقوف على قدميه، لا من البقاء تحت رحمة المانحين.
إن تحويل الفقر إلى أداة انتخابية هو تعطيل متعمد لطاقات واعدة، وسلب لكرامة وحرية الإنسان حين يُختزل المواطن في بطاقة دعم، أو رقم في سجل اجتماعي، يصبح الوطن مجرد إدارة توزيع لا فضاء للحرية والعدالة والكرامة.
والأدهى من ذلك، أن تقسيم الوطن والمواطنين إلى فئات: أرامل، مطلقات، وذوي إعاقة، مهمشين، فقراء، مناطق ظل... لا يمكن أن يكون أبدًا مدخلاً لمعالجة جذرية للوضع، إذا لم يُقرن بمنظور مغاير يرى في هؤلاء طاقات كامنة، لا مجرد حالات اجتماعية. يجب أن ننتقل من التفكير فيهم مستحقين للدعم إلى فاعلين في الإنتاج والإبداع عبر التبسيط الإداري، التكافؤ الفرص والتمييز الإيجابي في الوصول إلى التعليم والتمويل، وسوق الشغل. فاليد العليا تبقى دوفا أكرم من اليد السفلى.
الحكومة التي تحترم نفسها لا تقيم اقتصادها على مؤشرات "كم أنفقت"، بل على "ماذا أنجزت"، وعلى ما وفرته من فرص وكم شيدت من جسور تربط المواطن بكرامته. أما صرف الملايير في شكل دعم مشلت، بلا أثر حقيقي في تغيير معيش الناس، فهو مجرد شراء للسكوت المؤقت.
إن السياسة التي لا تحسن سبل الحياة، ولا تفتح أبواب الأمل والعمل أمام المواطنين، ليست سياسة، بل ملهاة، ومتى كانت الملهاة تبني وطنًا؟