تحليل

"حكومة أخنوش" في امتحان .. عزة أو هوان

بنسالم حميش

الحياة السياسية عندنا، كما نعلم، لم تقم من قبل بنيويا على الثلاثية القطبية (يمين، يسار، وسط)، لذا حسناً فعل رئيس الحكومة الجديدة السيد أخنوش لما أن حصر حلفاءه في ثلاثة أحزاب فقط، كيما يكون الائتلاف الحكومي مستوفيا شرطيْ التماسك والعمل المنتج الملقحين ضد خطر التعثرات وسوء الأداء.

هذا الخيار من شأنه مبدئيا الإسهام في تشكيل حكومة فاعلة ذات أغلبية برلمانية منسجمة متضامنة، لا تشوبها شوائب الاهتراء والمزاجية والتهاون؛ وعلاوة على ذلك، وحتى لا يضطر الرئيس إلى ممارسة حقه المنصوص عليه دستوريا في إعفاء هذا الوزير أو ذاك، وتعيين خلفه بعد استئذان جلالة الملك (بمقتضى الفصل 47)، فإنه الأنسب والأنجع – تجنبا للارتجاجات والمطبات وإضاعة الوقت كما حصل مع وزراء سابقين ذاع صيتهم السيئ – ولعله التمس من شركائه أجمعين، عند توزيع الحقائب الوزارية، ألا يرشحوا لها إلا ما لديهم من ذوي الكفاءات المثبتة والسير الذاتية المعتبرة والوضع الصحي والأخلاقي السليم، يُشهد لهم بالنبوغ والمروءة وحسن البذل والعطاء؛ فنجاحه الرئاسي رهين بهذا الاشتراط ومرتبط به عضويا أيما ارتباط، مثله كمثل ربّان سفينة تمخر عباب بحرٍ هائجٍ مائج، وعليه أن يتوفق بأدق البوصلات في إيصالها إلى مرافئ الأمان والنجاة، معولاً على علمه وأيضا على أداء أعوانه كلهم مهامهم بحنكة وإتقان وتفانٍ؛ ومعنى ذلك عمليا أن يحيط سياسته وعمله بوزراء لهم، كلٌّ في قطاعه الخاص، المحاسن والميزات نفسها التي يتوخاها له على الصعيد الحكومي ككل متماسك متناسق، وأن يعمل هؤلاء مع أطر أكفاء أمناء، يرتاحون إليهم ويثقون بهم. وهذا ما يمكنه السهر على إنجازه بفضل المسطرة الميسرة التي يخولها له الدستور الجديـد (في الفصـل 92). وهذا النهج الجديد الذي قوامه وشعـاره: دستور جديد، فاعلون جدد، يُلزمه بالتحفظ بل بالممانعة على ترك حلفائه يفرضون عليه أسماء تعب المواطنون منها وملّوا، لما أمضوه من سنوات طوال في ولايات وزارية؛ يمكن بالحجة والدليل الكشف عن أنهم، عدا تصريف الأعمال العادية، لم يُجْدِ أداؤهم نفعا مؤثرا ولم يصلحوا ما اعوّج وعضل في قطاعات ترأَّسوها. إن موقفه ذاك لمن شأنه أن يقطع الطريق على زمر الانتهازيين والوصوليين – وما أكثرهم ! – وبالتالي أن يفْرج عن ذوي الطاقات والمؤهلات الذين يقصيهم ويهمشهم داخل أحزابهم محترفو السياسة السياسوية والماهرون في تدبير أساليبها، من مناورة ومواربة ومخاتلة وحسابات ضيقة ومطامع ذاتية جامحة.

إن واجب إفساح المجال لنخب جديدة من ذوي الكفاءات والغيرة الوطنية والهويتية هو ما قصده وعناه جلالة الملك محمد السادس في خطب كثيرة، أذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، هذه الفقرة النيرة: «إنه يجدر بها ]الأحزاب] أن تفسح المجال للطاقات الشابة والنسائية، بما يفرز نخبا مؤهلة، كفيلة بضخ دماء جديدة في الحياة السياسية والمؤسسات الدستورية] …[ فشباب المغرب، الواعي والمسؤول، يوجد اليوم في صلب مشروع التحديث الدستوري من حقوق وواجبات وهيئات المواطنة الفاعلة، لتعزيز انخراطه في مختلف الإصلاحات الديمقراطية والأوراش التنموية».

إن الحكومة الجديدة تأتي في ظرفية تاريخية صعبة عصية فاقمتها تراجيديا جائحة كوڤيد-19 التي لا يلزم، بالرغم من ضراوتها، أن تحجب عنها ولا عنا حراكا سلميا لم يَشُبْهُ عراك، حراك 20 فبراير 2011، ولم يكن من باب عدوى “الربيع العربي” ومحاكاته، بل بفعل الضائقات والمكبوتات المتراكمة، وقد ينزع مدُّه إلى الغليان والتأجج إذا لم تسرع هذي الحكومة جديا، ولو تدريجيا، في تحقيق مطالبه التي يتصدرها الحق في الحياة الكريمة ومفتاحُها الحق في الشغل (كما ينص عليه الدستور الجديد في الفصلين 20 و30).

إن الإشكال الصعب، أو عصب المأساة في تلبية ذلك الحق لحملة الشهادات خصوصا، يكمن في أن هؤلاء هم إجمالا خريجو تعليم عمومي ضعف أداؤه منذ عدة عقود، وذلك رغم أن الدولة ترصد له ميزانية ضخمة، فبات يمنح دبلومات تضاءلت عموما عبر السنين قيمتها في سوق التوظيف والشغل. وإن وضع جامعاتنا بكل تخصصاتها يشكل أبلغ تعبير تركيبي عن صعوبة تلك الحالة التي قصَّر في علاجها وزراء متعاقبون ومدرسون متهاونون وحتى الطلبة المستسهلون والانتهازيون، فأضحينا أمام معضلة صلبة النشأة، معقدة المفاصل والخيوط، متناسلة الآثار والعواقب؛ فلا القطاع الخاص يقبل توظيف أولئك المتخرجين (ولو كانوا دكاترة)، ولا هؤلاء يريدون العمل في هذا القطاع غير المأمون الجانب في نظرهم، ولا الوظيفة العمومية المكتظة تستطيع ماليا استيعاب أفواجهم المتكاثرة سنويا، ولا حملة الشهادات يبغون عن القطاع العمومي بديلا، لكونه في اعتقادهم الأضمن والأريح. إنها معضلة عصية لنا ما يكفي من التقارير والدراسات لمعرفة مسبباتها ومواطن دائها واختلالاتها، وهي إن تفاقمت فستهدد المستقبل بالجدب والضمور، وتجعل مغرب الغد ومرافقه العمومية، لا سمح الله، بين أيادٍ قاصرة وسواعد منكسرة، فيُحدث ذلك أكثر فأكثر نزوح أفواج من الكفاءات إلى البلدان الغربية أو استفراد القطاع الخاص بما يكفيه منها.

إن المقترحات العلاجية في الموضوع ذاته، التي ترِد من هنا وهناك، داعية إلى مهننة التعليم بتوجيه التلاميذ إلى معاهد التكوين المهني، إن هي إلا مقترحات محدودة التأثير والجدوى، لكون البطالة لا تستثني بنحو دالّ هذه المعاهد نفسها، ولأن والغاية المتوخاة من التعليم عبر كل أسلاكه هي أيضا – وبالأولى – خلق مجتمع العلم والمعرفة والبحث المعمق وتقوية البلاد بالأطر العليا ونخب التنمية الشاملة. ولهذه الغايات جميعها وإظهارا لأهميتها الحيوية المحورية رُصدت لذلك القطاع برسم قانون المالية منذ 2011 ميزانية تمثل %29 من ميزانية الدولة العامة، أي 51 مليار درهم، تفوق حتى ميزانية الدفاع الوطني، هذا فضلا عن ميزانيات القطاعات الوزارية الأخرى.

أما الكلام التهويني الذي نسمعه عادة عن عالمية ظاهرة البطالة فمردود عليه، لكون مردِّديه يتغاضون عن تأمل الحلول العملية القابلة للتطبيق والمبادرات الاستباقية والوقائية، وكذلك عن استلهام أنفعها وأنجعها، ولو في مرحلة تجريبية انتقالية. وحتى لا نعدد الأمثلة، لنكتف بمثال واحد قريب منا تاريخيا وعلائقيا، ففرنسا الجمهورية الخامسة أنشأت في 1958، بإيعاز من مؤسسها الرئيس شارل دي غول، نظام التأمين على البطالة، الذي تطور مع حكومة ميشل روكار في 1988 نحو خلق “الدخل الأدنى للاندماج” (RMI)، ثم حل محل هذا الأخير في 2009 “دخل التضامن الفاعل” (RSA). ومثل هذه الحلول، محاطةً باحتياطات واشتراطات، هي ما يتبدى اليوم الأنسب عندنا للأخذ والإعمال، وذلك بموازاة مع مراجعة البرنامج الاستعجالي لوزارة التربية الوطنية والتعليم، وعقلنه برنامج القانون الإطار، وبالأخص الرفع من النصيب الاستثماري والجهد الإصلاحي لفائدة منظومة التعليم الأساسي (تحسين الرواتب والتعويضات والترقيات، تشغيل آليات تنافسية لبروز مدارس أنموذجية، تجميع الوحدات التعليمية في العالم القروي عبر شبكة طرقية ونقلية ميسرة، إنشاء مقاصف ومطاعم من طرف الوزارة الوصية، مدعومة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وأطراف أخرى، إلخ). وهذه الإجراءات الإصلاحية وغيرها في منظومة التعليم الأساسي هي الأدعى لتأهيله وتمكينه، في المديين المتوسط والأبعد، من إنعاش نظام التعليم كله وتجديد صلاته ومعابره وتمتينها مع سوق المقاولة والشغل والانفتاح على الحداثة والقيم الهويتة والثقافة.

إن قضية التعليم ستفرض إذن نفسها مجددا على الحكومة الجديدة كقطب محوري وركن ركين، لكن جميع القضايا والملفات تظل متداخلة متعالقة، ولا يحسن النظر فيها إلا بنيويا وشموليا؛ ويبقى في حكم الإمكان معالجتها حسب سلم أولويات وروزنامة دقيقة، جدية ووفية، وذلك بموجب سلطات الرئيس الدستورية الموسعة والصفات المتوخاة فيه، علاوة على فضيلتي الشجاعة والجرأة، فيقول لا ثم لا حيث يجب عليه ذلك عينا، ويسعى جاهدا مع فريقه إلى تفكيك وإزاحة ممارسات وعادات فاسدة، ما أضر بنظامنا السوسيو-اقتصادي سواها. ولنا أن نذكّر اختصارا ببعض الأمثلة على وجوه التداخل والتعالق بين الملفات والمشاريع المشار إليها أعلاه، كإصلاح منظومة التعليم بدءا من التعليم الأساسي، وكخلق صندوق التعويض المشروط عن بطالة حملة الشهادات وتمويله من صندوق التضامن الاجتماعي الموعود أو من صندوق مخصوص، وكالحسم في مشكل صناديق التقاعد على نحو يعيد الاعتبار ماديا ومعنويا إلى شرائح اجتماعية تتسع أعدادها في الوظيفة العمومية سنة بعد أخرى. وكل ذلك وغيره يستتبع قطيعات إجرائية ضرورية، من أهمها:

1 – القطيعة مع سياسة ترك الحبال على الغوارب ودار لقمان على حالها (سياسة “سلّك”)، إذ إن زمننا هذا هو زمن التنافسية الاقتصادية، والتكتلات الاتحادية والتعاونية، وتسارع الأحداث الجسام الفيصلية (أهمها في منطقتنا التمردات المطلبية وثورة الشعوب ضد أنظمة الظلم والطغيان). وبالتالي، أمسى اليوم من المستعجل إحداث قطيعة جذرية مع مسلكيات التلاعب بالوقت وتمضيته هباء منثورا، وإلا ارتدت علينا عقارب ساعاته بعواقب وخيمة سيئة (كما حدث لنا فعلا طوال عقود خلت). إن الحكامة الجيدة هي أيضا التدبير الجيد للزمن بالأجندة المحكمة، والبرمجة الحكيمة، والمواعيد المستجابة مع الإنجازات المهيكلة الرافعة، التي تتأبى التسويفات والإبطاءات المخلة المعرقلة. فكما ورد في خطاب 20 غشت المذكور: «كل تباطؤ من شأنه رهن دينامية الثقة، وهدر ما يتيحه الإصلاح الجديد من فرص التنمية، وتوفير العيش الكريم لشعبنا الأبي؛ فضلا عن كون كل تأخير يتنافى مع الطابع المؤقت للأحكام الانتقالية للدستور».

2 – محاربة التبذير وإهدار المال العام. وقد يلزم وضع مرصد لهذه الظاهرة الخطيرة من أجل إضعافها فاستئصالها؛ وهذا ما سيسهم في سن سياسة ترشيد نفقات الدولة وكل الميزانيات الوزارية والقطاعية، وأيضا رواتب أعضاء المجالس الاستشارية، وبالتالي مغالبة العجز المالي البالغ للسنة الجارية (29،5 مليار درهم).

3 – اتخاذ كل الإجراءات العملية والوقائية ضد الثالوث السالب: الأمية، الفقر، العطالة، وكلها بؤر متلازمة تغذي في ما تغذيه إفساد الاستحقاقات الانتخابية، ويحط استشراؤها من قيمة الديمقراطية نفسها وفعاليتها، ويعرقل التنمية ويخرق معاهدة حقوق الإنسان لـ 1948 وكل المواثيق الدولية والدينية.

 

4 ــ السعي الدؤوب إلى اجتثاث الفساد، الذي ظل عقودا طوالا عقبة كأداء أمام السلط التنفيذية، ومرضا خبيثا ينهش نسيجنا الاقتصادي والاجتماعي وحتى نسبة النمو، وذلك بالرغم من مقتضيات زجرية أو وقائية ضد ضروبٍ شتى من الفساد، كالرشوة والتلاعب بالصفقات العمومية وشراء الذمم، وغير ذلك. وستكون على الحكومة مهمة لا محيد لها عنها، هي الزيادة في تقوية الترسانة القانونية والعدلية لتسريع تنفيذ الأحكام القضائية والقانون الجنائي وتفعيل المساطر والاتفاقيات المتعلقة بالحد من تفشي ظاهرة الفساد في اتجاه التخلص منها؛ هذا علما أن التحدي الأكبر الذي يجب رفعه هو التغلب على تلك الظاهرة طيَّ تخفيها ولامرئيتها (le dessous de table) أي حين تصير الرشاوى من الحجم الفخمِ الجسيم، وناتجة عن توافقات وتواطؤات وتحويلات مشبوهة بين فرقاء متنفذين، مازالوا وطيدي الصلات باقتصاد الإقطاع والريع.

إن وضع المغرب اقتصاديا واجتماعيا ليس على ما يرام وكما نتمناه ونرتضيه: آثار ورواسب أزمة السوربرايم في 2008 بالولايات المتحدة، غلاء أسعار المحروقات والمواد الأولية، اختلالات بل جنون الأسواق المالية الغربية، تفاقم المديونية الخارجية البالغة 373،7 مليار درهم لهذه السنة، ركود معدلات النمو، إلخ. لذلك سيكون على السيد الرئيس كما على كل عضو في حكومته مضاعفة الجهود والاستعانة اليقظة والحذرة بالهيئات والمجالس المدسترة، وحتى بالأنموذج التنموي الجديد، وأيضا جعل المعرفة النيرة في خدمة ثقافة النتائج الجيدة المعطاء؛ وذلك قصد النهوض أكثر بكل القطاعات المهيكلة الأساسية، وهي، علاوة على التنمية الاجتماعية والخدماتية والتغطية الصحية الموعودة:

– إصلاح قطاع التربية والتعليم جذريا، وتقوية نسيجه وتحسين مردوديته العلمية والتشغيلية (كما عرضناه آنفا)، وهو في علاقة تماس وتفاعل مع قطاع الثقافة الذي، ككل منظومة حية، يعرف في البلدان المتقدمة تطورات وطفرات نوعية في الوضع والوظائف، إذ أمسى أكثر فأكثر حقلا للاستثمار في التنمية البشرية وقطاعا للإسهام في خلق مناصب الشغل والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي فقد ولّى زمن اعتبار الثقافة نشاطا ثالثيا غير منتج أو ترفا لتزجية فترات الفراغ و”قتل الوقت”. وعلى وزير الثقافة الجديد أن يستجيب لهذه التحولات ويضطلع بمهامها، ولو كرهت لوبيات الريع والابتزاز والسمسرة.

– قطاع الاقتصاد والمالية، وهو بالطبع والضرورة الناظم الأفقي المحتاج دوما إلى تأهيله وتمنيعه بنسبـة نمو دالـة، تحاذي % 6 على الأقل من دون احتساب عائدات الفلاحة غير القابلة للتوقع Hors agriculture (HA) كما أوصت بذلك منظمات مالية عالمية كصندوق النقد الدولي (تقرير يوليوز 2011)، وهي النسبة التي إذا ما تحققت ونمت فمن شأنها أن تنعش سوق العمل وتخفف من وطأة البطالة البالغة حسب تقرير بنك المغرب «نسبة 8،12%، بحيث سجلت 12،8 %في المناطــق الحضريـة و8، %4في المناطق القروية»؛ ناهيك عن كون البطالة في الحواضر تمس بشكل مقلق الشباب وحملة الشهادات (كما فاتت الإشارة). هذا وإن مشروع قانون ميزانية 2020 لا يتوقع سوى 8،4 أو 5 % كنسبة للنمو السنوي للناتج الداخلي الخام، فيما سعر برميل النفط يتراوح بين 70-71 دولارا كما جاء في تقرير المندوبية السامية للتخطيط. وعلى أي حال – وللتذكير فقط – فإن هذه النسبة، حسب تقرير البنك الدولي (1996): «بلغت طوال السنوات الست الأخيرة ]السابقة على هذا التاريخ3 [،4 % في المعدل، ويلزم أن يصل سريعا إلى %7 لإرجاع البطالة إلى حدود متحملة». لكن – وهذا ما يلزم تذكّره دوما والتأكيد عليه – هو أنه حتى لو تحققت تلك النسبة، بل تضاعفت تقريبا كما في 1994، فلن يكون لها أي وقع دال إذا لم تؤثر إيجابا على المؤشرات السوسيو-اقتصادية الحيوية: التحكم في نسبة النمو الديمغرافي البالغ، 2،1% وسيصل إلى 9،0% في 2030، انخفاض نسبة البطالة، تقليص الفوارق الاجتماعية والجهوية، التخفيف من عبء المديونية الخارجية، وهو ما سجلناه أعلاه. وكتذكير تاريخي نافع يحسن أخذه في الحسبان، اعترفت الأمم المتحدة نفسها في تقريرها عن سبعينيات اقتصاد العالم الثالث بأن «النمو الخاضع لأحادية الاقتصاد المتري والمردودية ليس تنمية». ولهذا السبب ما كان للنمو القياسي لسنة 1994 (%12) أن يدوم ويؤثر إيجابا، لاسيما أن ارتفاع نسبته كان مدينا لفصل زراعي جيد معطاء كما ألمعنا.

إن وزير الاقتصاد والمالية، الذي نتمنى أن يكون من الصفوة خبرةً وبعدَ نظر ونزوعا إنسانيا – يحسن أن يعمل إلى جانبه موظف سام في الميزانية بدرجة كاتب الدولة –هذا الوزيــر قد يكون كينزي التوجه (نسبـةً إلى جـون كينز John. Keynes)، يرى أن التقدم الاقتصادي يتأتى بخفض نسب الفائدة وسن سياسة الأوراش الكبرى والاستثمارات المجدية وترشيد نفقات الدولة، سياسة تتوخى إنعاش الاستهلاك وبالتالي الإنتاج وسوق الشغل، أي اجتناب الركود والبطالة، ولو بتحمل نسبة ما من التضخم (وهي عندنا برسم 2021 1،70% ). ذلك أن سؤال الأسئلة الذي يُرجى ألا يقصِّر الوزير المختار وخبراؤه في طرحه وإيلائه الصدارة ليس نسبة النمو كرقم أو مؤشر مكتف بذاته، بل إنه، كما ذهب اقتصاديان (حاصلان على جائزة نوبل) أمرتييا سين وجوزيف ستيكليتز: كيف هي حال الناس؟ لذلك أحسنَ برنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD) صنعا حين تبنى التنمية البشرية مؤشرا أساسيا لتقييم أي سياسة اقتصادية والحكم لها أو عليها من حيث درجة تمكين الناس من ممارسة حقوقهم في الصحة والسكن اللائق والخدمات والتعليم والثقافة، وجعل حياتهم ذات يسر وجودة ومعنى. وذلك ما يؤكد عليه تقرير سين- ستيكليتز- فيتوسي (2009) كمعايير جديدة للاقتصاد الحي، تفوق نوعيةً ودلالة معياريْ نسبة النمو والناتج الداخلي الخام. (وقد صنف ذلك البرنامج الأممي المغرب مؤخرا في المرتبة 121 على 189، مع أن من الممكن انتقاد بعض وجوه موضوعيته…).

مواضيع أخرى شتى متشعبة لا يتسع لها حيز هذي المقالة؛ لذا أختم حديثي بصوغ بعضها لماما في ثلاثة أسئلة لا غير:

1- ستجد حكومة أخنوش أمامها ملفات ساخنة أخرى عديدة، منها مثلا كتلة الأجور البالغة 135،65 مليار درهم، ضمنها كلفة الحوار الاجتماعي (5،14 مليار درهم)؛ ومنها صندوق المقاصة، الذي يثقل كاهل ميزانية الدولة بل يرهقها بغلاف قدره 5،13 مليار درهم، لاسيما أن سوق المواد الاستهلاكية الأولى (السكر والطحين وغاز البوطان والغزوال) غير مستقرة، بل آيلة أسعارها اليوم إلى الارتفاع. فهل ستعمل هذه الحكومة بوصية الاتحاد العام لمقاولات المغرب على لسان رئيسه السابق السيد حوراني، وهي دمجه في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؟ أم إنها ستفضل على هذا الخيار وصية تقرير بنك المغرب وقتذاك، وهي تحديد وظيفة ذلك الصندوق في استهداف الفئات الاجتماعية المعوزة حصريا، أي بإعمال نظام بطاقات التزود بأثمان مخفضة، كما الحال في تعاونيات الخدمات الاجتماعية مثلا، أو بوضع آلية أخرى مبتكرة تفي بالغرض المتوخى؟.

2- هناك موضوع يعتبره عدد من مدبري شؤون الاقتصاد والمال طابو، وهو ما تسميه في أوروبا فعاليات اقتصادية الضريبة على الثروة (ISF)، السائلة منها والعقارية وعلى المواريث، وهي ضريبة قائمة على قاعدة أن من يتربح ويملك أكثر عليه أن يسهم في مداخيل الخزينة العامة على النحو المستحق والأنسب، وكذلك في إنعاش الاقتصاد الوطني وخلق مناصب الشغل بفضل الفائض السائل (Théorie du ruissellement). فهل ستكون للحكومة الجديدة جرأة طرح هذا الموضوع على بساط البحث والتشريع، وكذلك أمر تفعيل الضرائب المنصوص عليها أصلا، آخذة بمبدأ العدالة الضريبية، وغير مفزوعة أو متأثرة بمحاذير المهولين من مخاطر تعاظم التملصات الجبائية وتهريب الرساميل إلى الأبناك الحرة ومناطق “الأوفشورينغ” الائتمانية؟.

ختاما

من أهم المطالب الدستورية التي كانت تتقدم بها الأحزاب الوطنية منذ سنوات خلت – علاوة على استقلال القضاء وفصل السلط وتوازنها – تقوية سلطات رئيس الحكومة وتوسيع صلاحياته. وها إن الدستور المغربي الجديد (المصوت عليه شعبيا بأغلبية فائقة في يوم فاتح يوليوز 2011) يحقق ذلك المطلب في المادتين 91 و92، ويدستر تقوية وضعه الاعتباري ودوره القيادي. وهذا التشريف المقرون بتكليف غير مسبوق في تاريخ المغرب المستقل يستتبع وجوب تحلي رئيس الحكومة بصفات وخصال محمودة: سعة الرؤيا وعمقها، الكفاءة الراسخة العالية والنجاعة التدبيرية، الاقتدار التواصلي والاستقامة الخلقية، وأيضا – وبالتأكيد – الشجاعة والإقدام اللذان أوصى بهما جلالة الملك في خطاب الذكرى التاسعة والثلاثين للمسيرة الخضراء، وكذلك في توصياته للجنة الأنموذج التنموي الجديد. وإذن إن حكومة السيد أخنوش منذ تاريخ تشكيلها توجد في امتحان زاخر بالتحديات من صنف ما تُعزُّ فيه أو تُهان، وكذلك أمام معارضة لن تكون قوية إلا مجهزةً بالإحاطة المعرفية والسلوك السياسي السديد الخلاق وليس، لا سمح الله، معارضة مشحونة بالنزوع الثأري والغلِّ والحسيفة.
وللحديث صلة.