قضايا

مقترحات أولية للنهوض بأوضاع شغيلتنا التعليمية

عبدالنبي الحري

مدهشة هي المفارقة الكبيرة التي تعيشها بلادنا هذه الأيام؛ ففي الوقت الذي فتحت فيه سلسة من الأوراش الكبرى، وفي مقدمتها استضافة عدد من التظاهرات الدولية الكبرى، في أفق سنة 2030، حيث ستحتضن، إلى جانب الجارتين الشماليتين، إسبانيا والبرتغال، أكبر تجمع عالمي  للكرة الساحرة، الممثلة في اللعبة الأكثر شعبية عندنا، وفي أغلب أرجاء المعمورة ؛ مع ما يقتضيه هذا الاستحقاق العالمي من استثمارات كبيرة، وعلى رأسها، الاستثمار في الموارد البشرية، والتي تقتضي ضخ وسائل مادية ومالية ولوجيستية في قطاعات أساسية، يوجد على رأسها قطاعين أساسيين وهما: التعليم والصحة.

فتنظيم، هكذا تظاهرات كبرى لا يقتضي تعبئة الموارد المادية فحسب، بل وقبلها، لا بد من تعبئة الموارد البشرية، فكأس العالم ليست توفير طرق وفنادق وملاعب وفضاءات وساحات للتلاقي والتعارف بين الجماهير الممثلة لمختلف الشعوب، ولكن، أيضا لابد من توفير العنصر البشري الذي من دونه لا يمكن لا تشييد ولا توفير ولا صيانة كل تلك المرافق المادية واللوجيستية المطلوبة لهكذا مناسبات، والتي ستنتهي فترتها وأهميتها، وستبقى القيمة الأساسية فيما حققناه من تنمية وبشرية. وهذا يقتضي أن نضع المدرسة الوطنية للتربية والتعليم على رأس أولوياتنا.

لكن، وفي الوقت الذي نرفع فيه سقف طموحاتنا الوطنية لتكون في مستوى هذه الاستحقاقات الدولية العظيمة، في هذا الوقت بالذات تعيش المدرسة العمومية أسوأ لحظاتها، بسبب الإضرابات التي لا تهدأ سنةبعد أخرى، خاصة خلال السنوات الست الأخيرة، والتي بلغت أوجها خلال الموسم الدراسي الحالي؛ بسبب عدد من التدابير والأنظمة والقوانين، التي أثارت، كما تثير اليوم، جدلا كبيرا في أوساط مختلف فئات الشغيلة التعليمية.

سألت يوما واحدا من قادة العمل النقابي ببلادنا، حول مآل احتجاجات المدرسين الذين يسمون أنفسهم ب”الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد”، فأخبرني أنه زار إحدى المؤسسات التعليمية بمدينة المحمدية، فوجد رجال الأمن المدرسي مضربين، بسبب عدم توصلهم بأجورهم الشهرية وتخلي الشركة المفوضة عنهم، وهي أجور هزيلة على كل حال، ووجد مدير المدرسة مضربا، بسبب  التعويضات الهزيلة على المهمة الإدارية، ووجد الأساتذة التابعين لنظام الأكاديمية مضربين بسبب وضعية الهشاشة القانونية التي لا يشعرون معها بالأمان الوظيفي والمهني.. وربما يكون هذا الفاعل النقابي قد تحدث عن فئة تعليمية أخرى محتجة ومضربة لم أذكرها الآن.

الشاهد في هذه الحكاية هو أن الغليان الحالي بالمدرسة العمومية ليس وليد مرسوم النظام الأساسي الجديد الذي لم تجد فيه أغلب الفئات التعليمية ذاتها، ووجدت فيه ضروبا من الإجحاف في حقها. لكن، يبدو أن ماكانت النقابات التعليمية قد أجمعت عليه حينما اعتبرت منهجية التوظيف ب”التعاقد” قنبلة موقوتة وضعتها السياسات التعليمية في قلب منظومة التربية والتكوينية، قد انفجرت اليوم في وجه كل مكونات المجتمع المغربي؛ إذ خاضت الشغيلة التعليمية المغربية سلسلة من الإضرابات، شلت جل المؤسسات التعليمية، وتوجتها بمسيرة وطنية، تعد واحدة من أكبر المسيرات الاحتجاجيةالتي عرفتها المملكة خلال الألفية الثالثة على الأقل.

مما لاشك فيه أن الاختلالات التي يعرفها قطاع التربية والتعليم سابقة على ما يسمى ب”التوظيف الجهوي”، كما تسميه الجهات الرسمية، أو التوظيف ب”التعاقد” كما يصفه المدرسون المعنيون بهذه الوضعية الوظيفية؛ لكن نعتقد أن من أبرز المشاكل الخلافية حول النظام الأساسي المثير للاحتجاج الوضعية القانونية الملتبسة لهؤلاءالمدرسين؛ ولعل هذا هو السبب الذي دفع مهندسي النظام الأساسي إلى تخصيص فقرات مهمة للتفصيل في عدد من العقوبات، وتفسير ذلك أن قطاع التربية يضم موظفين غير تابعين للوظيفة العمومية، ولا يمكن أن تنطبق عليهم العقوبات المنصوص عليها في قانون الوظيفة العمومية، فكان لابد من وضع مرجعية تشريعية لهذا المقصد، وإلا ما الذي يبرر التنصيص على العقوبات في هذا النظام الجديد على خلاف الأنظمة السابقة للقطاع؟

ليس الهدف من الفقرات السابقة رصد مختلف النقط المثيرة للاحتجاج في النظام الأساسي الجديد للتربية والتعليم، فقد أسهب في عدها وإحصائها المعنيون بالأمر بما لا يترك حاجة لتكرارها هنا، ولكننا، ومن موقع دور المثقف الوطني، المطالب بالالتحام مع قضايا الوطن المصيرية، والتي تعد قضية التربية والتعليم واحدة من أبرزها، نوجه نداء للجميع، حكومة وبرلمان، ومجالس منتخبة ومعينة، وهيئات حقوقية ومدنية، فضلا عن الهيئات النقابية، إلى البحث عن مشترك وطني يقوم للمعلم ويفيه ما يستحقه من التبجيل، على المستوى الاعتباري وعلى المستوى الاجتماعي وعلى المستوى المادي.

إن الاستثمار في العنصر البشري يقتضي أولا وقبل كل شيء مدرسة وطنية، عمومية أو خصوصية، ناجعة وفاعلة. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون معلم يشعر بالاستقرار الاجتماعي والأمان الوظيفي، وهذا لا ينطبق على المدرسين الذين يعتبرون أنفسهم في وضعية “المفروض عليهم التعاقد” ولكن، ينطبقق أيضاعلى عدد كبير من المدرسين بالقطاع الخصوصي، والذين يعيشون أوضاعا مهنية سيئة، لا يتكلم عنها لا نقابيون ولا فاعلون مدنيون ولا مسؤولون رسميون، يكفي أن ندعو الجهات المعنية إلى فتج ملف هؤلاء الموظفين، حول قضايا محددة من بينها : كم عدد الذين يتقاضون الحد الأدنى من الأجور المنصوص عليه قانونا؟ وكم عدد الذين تصرح بهم مؤسساتهم للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؟ وهل يتمتعون بالحق في العمل النقابي؟

ليست هذه القضايا التي تثيرها الأسئلة السابقة إلا محاولة لتعرية الوضعية المزرية التي تعيشها فئات عريضة من الشغيلة التعلمية بالقطاع الخصوصي، لكنها لا تستطيع رفع صوتها محتجة بسبب الوضعية المهنية الهشة التي  تعيشها. وهذا يدفعنا كمجتمع إلى السؤال عن الكيفية التي يمكن بها لهؤلاء المدرسين الخصوصيين، أن يقدروا بها أبناءنا، الذين ننفق  الجزء الأكبر من أجورنا الشهرية على تمدرسهم بالقطاع الخاص، على قيم النقد والحرية وإتباث الذات والابتكار والإبداع، وهم يفتقرون إلى أبسط أسبابها، إذ لا يجرؤون على قول كلمة علنية رافضة لما قد يتعرضون له من إجحاف من طرف مشغليهم أرباب المدارس الخصوصية؟

إذا كانت المدرسة الوطنية واحدة، باعتبارها تضم أبناء المغاربة، الذين يدرسون بالقطاع العمومي كما الخصوصي، فينبغي أن أن تخضع لمنظومة واحدة: قانونية وبيداغوجية، من بينها نظام واحد وموحد لكافة المدرسين العاملين بها، بحيث يشمل النظام الأساسي كل المدرسين، العموميين والخصوصيين، ويحدد حقوقهم وواجباتهم، وشروط ولوجهم للمهنة، وسبل تدرجهم الوظيفي وترقيهم المهني، لا أن نكتفي بنظام يخص العاملين بالقطاع العمومي ونهمل الذين يدرسون أبناء المغاربة بالقطاع الخصوصي ونتركهم لقوانين أخرى، قد لا تصلح في معظمها لتأطير العلاقة المفترضة بين رجل التعليم ومشغله في التعليم الخصوصي.

إن الحديث عن وضعية المدرسين بالقطاع الخصوصي، لا تعني أننا نعتبر وضعية نظرائهم بالتعليم العمومي مثالية، فما يجري من احتجاجات وإضرابات، تدل أن الوضعية غير طبيعية، ولكن، نسجل من خلالها ملاحظةأنه في الوقت الذي تستطيع فيه الشغيلة التعلمية الانتظام في أشكال تنسيقية ونضالية، لا تستطيع ذلك شغيلة التعليم الخصوصي، وليس من العدل الصمت المطبق على وضعيتها المهنية وما تعرفه من اختلالات ومشاكل.

وغير بعيد عن القطاع العمومي، لابد من فتج ملف شغيلة التعليم ما قبل المدرسي، الذي لا ينبغي تركه لجمعيات تدبره، وتتلقى دعما ماليا عموميا لهذا الغرض، في حين أن هذا التعليم الأولي ينبغي أن يكون تابعا، في كل جوانبه، للمدرسة العمومية، وأن تكون شغيلته جزءا لا يتجزأ من الشغيلة التعلمية، تكوينا وتشغيلا، عوض أن يترك أمر تشغيلها لجمعيات، من الضروري، وفي انتظار إدماجهم، التقصي عن مدى احترامها لحقوق المربيات، من التزام بالحد الأدنى لللأجور، ومن أداء مستحقات الضمان الاجتماعي.

من أجل ذلك، نعتقد أنه من الحكمة، أن تعلن الحكومة، سحب النظام الأساسي، والعمل على وضع نظام جديد، يتجاوز عيوبه، ومن بينها تعميمه ليشمل كافة المدرسين، المشتغلين  بالتعليم العمومي أو المزاولين الخصوصي، المدرسيين وما قبل المدرسيين .. الخ. نظام واحد وموحد لكل الفئات يلتزم بالمعايير المثلى المنظمة لقطاع حساس مثل قطاع التربية والتعليم، والذي يقتضي وضع ترسانة تشريعية تضمن للمدرس وضعية اجتماعية اعتبارية تمكنه من أداء وظيفته المجتمعية الحساسة.

إنه في غياب نظام أساسي متوازن بين الحقوق والواجبات، ومحفز للطاقات التعليمية، ومشجع لها على الابتكار والإبداع، ويكرس العمل بآلية السلم المتحرك للأجور، ويفتح إمكانيات متعددة للترقي في الرتب والدرجات، والإطارات ، من دون أن تقف عند سقف محدد بالنسبة للمدرسين في مختلف مراحل مزاولتهم لمهنة التدريس والتعليم، ويأخذ بعين الاعتبار الشهادات العلمية العليا، تشجيعا للتكوين المستمر والبحث العلمي وإعطاءها موقعها الريادي داخل المنظومة التربوية والتعليمية. أقول في غياب كل ذلك، وغيره من التدابير الإصلاحية الضرورية، من الصعب الحديث عن مدرسة وطنية رائدة، إذ يفترض أن تكون كل مدارسنا رائدة، وليست هذه المؤسسة أو تلك، فذلك يعد، في نظرنا، مجرد هروب إلى الأمام.