منذ بداية الخليقة ، كانت القوة الغاشمة وحدها معيار الهيمنة والتسلط والقيادة ، وبالتالي السيادة وهو ؛ بمعنى من المعاني ؛ "القانون" الشبيه بقانون الغاب الذي يكون الإنسان القديم قد استمده من العيش جوار كائنات ضارية ؛ لا تحتكم في تعايشها سوى لقانون أسمى ، سلطان القوة والمقدرة ، فيغدو الأسد ملكا وما عداه خدما وحاشية ، بيد أن هناك مفارقة كبيرة بين القوة الغاشمة والقوة العاقلة Rational force وربما شكلت التمايز الذي يفصل الإنسان عن باقي الكائنات .
فالقوة الغاشمة تفتك بأي كان ، بينما القوة العاقلة التي يمثلها الإنسان من الصعب جدا اقتحامها ، وهي التي بوأته عبر حقب التاريخ ؛ منزلة حضارية رفيعة ، تميزت بسن قوانين وأنظمة وعهود ومواثيق ؛ صارت فيما بعد ؛ تشكل منظومة العلاقات والمواثيق التي تربط بين أفراد وشعوب الأرض ، والناظم لمعاملاتها .
ويمكن القول بأن الرسائل والكتب السماوية ؛ هي الأخرى ؛ ساهمت وبقسط وفير ؛ في بناء القانون العام والذي كان يجنح دوما إلى تبيان قيم الخير والشر والتضحية والتسامح والتعاون والتضامن . مجردة من كل الأطماع والنوايا ، بيد أنها ؛ وفي حقبة تاريخية موالية ؛ سطتْ عليها مؤسسات دور العبادة ، ممثلة بشكل رئيس في دور الكنيسة البابوية التي هيمنت على حياة الإنسان في شقيها العقدي (الروحية) والمعاملاتية (المادية ) ، لكن سرعان ما ستتخلى عن عرشها ، في ركاب التطور الصناعي وظهور الرأسمالية الليبرالية Liberalism ، فغدا المال السيد وحكم الفصل في النزاعات السياسية الدولية ، مشخصة ؛ بشكل خاص ؛ في المنتجات الصناعية وتصريف السلع والأسواق والموارد الاقتصادية والشراكات متعددة الجنسيات أو بالأحرى العابرة للقارات .
هكذا ؛ وبهذه الوتيرة الحاجياتية الملحة Urgency اختفت بالكاد القيم الروحية والأخلاقية عامة ، وأصبحت قصرا على ارتياد دور العبادة وإتيان بعض الطقوس، وحلت محلها القيم المادية المحضة ؛ أفرغت إنسان الألفية الثالثة من إنسانيته ونزعته إلى الخير والحب، بل صبغتها في عمقها بمقابل مادي ينحصر تحت عناوين كم ؛ مردودية من ؛ وخسارة من ؟! وأضحى ؛ في ظلها ؛ مفهوم الإنسان لا يتجاوز إطارات الإنتاجية ( Productivity) والتسويق ( Distribution) والاستهلاك ( Consumption) ، كما تطورت دراسة الإنسان أخيراً إلى الوقوف على حاجياته واستهلاكاته وقدراته ، ومن ثم غدا هذا الإنسان/ العجوز/ المتقاعد عالة على "المجتمع" ، ما دام يكتفي فقط بالاستهلاك ، بل ذهبت بعض نظريات الرأسمالية المتوحشة إلى وجوب التخلص منه "كجهاز" بلِي وفقد فاعليته !
الترويج للاستهلاكية الاقتصادية Economic Consumptionism
بات هناك صراع على أشده بين عدة أقطاب اقتصادية ، على رأسها أمريكا والصين ،اللذين يسعيان بشتى الوسائل إلى مد نفوذ كل منهما على اقتصاديات وأسواق العالم ، لتصريف منتجاتهما ، وبالتالي نشر ثقافتهما الاستهلاكية ،عبر شركات ومؤسسات إنتاجية عابرة للحدود ، سواء تعلق الأمر بالاقتصاديات الكبرى ، ممثلة في صناعة الطائرات والغواصات والسفن ، أو الاقتصاديات الصغرى كالمعدات والأجهزة الإلكترونية وقطع الغيار ومواد البناء ..
داخل هذه البيئة الإنتاجية المادية الصرفة نشأ إنسان استهلاكي مهووس بحاجياته المادية ، لكن في المقابل فارغ بالكاد من كل القيم الروحية والأخلاقية ، ما جعله يسقط ؛ بين الفينة والأخرى ؛ فريسة لأمراض سيكولوجية جد معقدة ، بعضهم يصاب بالعدوانية تجاه الآخرين ، وآخرون ينتابهم الشعور بالاكتئاب أو يسقطون صرعى للسادية المتقدمة Sadism . ولخطورة ظواهر وحالات مثل هذه ، وعملا على التخفيف من حدتها ، لجأت بعض الدول الغربية ؛ على سبيل المثال ؛ إلى نصب أكشاك للهاتف الأصفر في الشوارع ، يسمح للمواطن العمومي أن يستعمله للصخب والسباب واللغط والصراخ ، فقط للتنفيس عن مكنوناته ومعاناته ، وأحيانا عن Schizophrenia انفصاميته . فهل سينحدر الإنسان إلى عصوره الأولى أو بالأحرى إلى حيوانيته التي لم تكن لتميزه كثيراً عن الحيوان الغاشم ؟!