بين الفينة والأخرى، يشبُّ نص ما عن “الطوق”، عبر نيل إحدى الجوائز الأدبية المُعتبرة (مثلا). وبمجرد التنويه بالنص المغمور، يتحول صاحبه إلى جملة الأدباء المكرسين مباشرة. لكن، لنعترف أن من النادر حدوث مثل هذا الأمر ببلادنا، إلا في ما ندر، في غياب المؤسسات الأدبية الوسيطة، ذات العلاقة الموضوعية بدور النشر والتوزيع، والمجلات الأدبية المُحكِّمة، والجمعيات الأدبية الرصينة.
وبوجود وفرة في النصوص الصادرة كل سنة، يبدو من الصعب الالتفات إلى بعض النصوص التي قد تحمل جدة وجودة، وقد يحصل إهمالها تحت طائلة الوفرة، أو انتساب أصحابها إلى فئة الكتاب المغمورين (غير المكرسين). إعلاميو البرامج الأدبية والثقافية، إضافة إلى محرري الملاحق الثقافية، الذين يتابعون جديد المنشورات الأدبية، على قلة عددهم وحيلتهم، لا يستطيعون الاضطلاع بالمهمة وحدهم، إلا في بعض جوانبها الضيقة. انحسار الوسائط التقليدية اليوم، والانتقال إلى طفرة جديدة من الوسائط، يزيدان في “تصعيب” مشهد المتابعة والترويج، بالمعنى الذي نريد الإشارة إليه.
إذاً، السؤال الذي ينبغي طرحه، والإجابة عنه بالتالي، هو: ما هي المؤسسات الوسيطة الفاعلة في مسالة التكريس، مع افتراض أن هناك جودة في المنتج الكتابي بشكل عام. بصفة إجمالية، يمكن الإلماح إلى ما يلي: النشر في الصحيفة (صفحة الناشئة، الصفحة الأخيرة والملحق الثقافي)، النشر في المجلة (محكمة، غير محكمة)، إصدار الكتب (طبيعة الدار الناشرة، قيمتها)، المساهمة في الندوات (محلية، وطنية، عربية، دولية)، المشاركة في المهرجانات ومعارض الكتب، الحصول على الجوائز (وطنية، عربية، دولية)، التواجد في الأنطولوجيات والمنتخبات والملفات الأدبية، الاستفادة من حظوة الترجمة إلى اللغات الأجنبية.
غير أن الفاعل الأكبر في مسألة التكريس، حتى مشارف بداية الألفية الثالثة، هو ما يتجسد في مؤسسة “الحزب”. فابتداء من الستينيات، على وجه التقريب، ظلت مؤسسة الحزب هي المهيمنة على المشهد الأدبي والثقافي، بارتباط مع مؤسسات أخرى رديفة، من قبيل “الجريدة”، “دار النشر” و”الجمعية الثقافية”. ومن هنا، انبثق ذلك السؤال الملتبس، حول علاقة الثقافي بالسياسي، ولو في بعض مظاهرها الخارجية.
النشر في الملاحق الثقافية الأسبوعية والمجلات الدورية، بموازاة مع ما تصدره دور النشر الدائرة في فلك الحزب، كانا الطريقين التمهيديين نحو عتبة “التكريس”، بالنسبة إلى كل كاتب ناشئ في المغرب، خلال مرحلة ما بعد الاستقلال. وبالطبع، لا ينبغي إغفال المشاركة في الملتقيات والمهرجانات الأدبية، سواء التي كانت تُنظم من قبل بعض الجمعيات الثقافية، مثل “اتحاد كتاب المغرب”، أم من قبل بعض المجالس البلدية في بعض المدن (الدائرة في فلك بعض الأحزاب “الوطنية” بالأخص).
منذ التأسيس لما يسمى حكومة التناوب، وبالتالي التمكين لدخول حكومة “اليوسفي” على خط تدبير الشأن العام، صرنا نلاحظ إبدالا على مستوى المؤسسات الأدبية والثقافية الوسيطة. وبالموازاة مع ما سمي الانتقال السياسي “المُحبط”، باتت الساحة الثقافية تنفتح على تصاعد وتائر استعمال وسائل التواصل الرقمية، وإلى جانبها وسائل التواصل الاجتماعية. إنشاء “صفحة على الفايس، مثلا، صار كفيلا لصاحبها بنشر نصوصه، وبالتالي الانفلات من التراتبية التي كان يفرضها القيمون على الجرائد، وعلى ملاحقها. وإذ نقلت هذه الوسائط بعض الكتاب إلى مركز الضوء، أزرت بآخرين لم يكن له حظ من التواصل الرقمي، وبالمقابل ظل اعتمادهم على الوسائط التقليدية مستمرا.
الانفجار الالكتروني، كان من نتائجه بروز كتاب جدد عديدين. جزء من هؤلاء، انفتح على المشاركة في ملتقيات أدبية دولية، اعتمادا على علاقاته الإلكترونية الشخصية بالدرجة الأولى. هذا المعطى الجديد “كسّر” هيمنة بعض الكتاب المكرسين (الشيوخ اليوم)، ومن هنا غدت الساحة الأدبية المغربية مشرعة على تجارب إبداعية، لا يمكن حصر نشاطات أصحابها، وتوقع حضورها في أكثر من محفل هنا أو هناك.
علاوة على الحضور الإلكتروني، يمكن تسجيل معطى جديد في مسألة التكريس. الأمر يتعلق، هنا، بخوض مغامرة التباري على الجوائز الأدبية. بخلاف الكتاب المكرسين، الذين استمروا في الإحجام عن التباري على الجوائز (العربية والدولية بخاصة)، نظرا لخشيتهم من المس باعتباريتهم المكتسبة عبر الوسائط التقليدية، ألفينا كُتابا جددا لا يأنفون من التباري على إحدى الجوائز (كيفما كان حجمها، وكانت قيمتها؟)، مدفوعين برغبتهم في “كسر” منطقة الظل، التي فرضت عليهم بسبب نمطية الوسائط القديمة. اليوم، في المغرب، كما في بلدان عربية أخرى، سطعت أنجم عدة كتاب، جراء حصولهم على جائزة من الجوائز. غير أن بعضهم ممن تُوّج انحاز إلى الظل، مرة آخرى، بعد صدور عمله الأدبي الأول. وفي هذا، يمكن إثارة أكثر من سؤال، ليس هنا أوان طرحه. ونظير المشاركة في التباري على الجوائز، يمكن إضافة عضوية لجان التحكيم والاستشارة والقراءة (في دور النشر، المجلات، الجوائز…). وفي المغرب، يمكن استدعاء ذلك النقاش الغاضب، الذي يظهر كلما اقترب موعد معرض الكتاب، حول هيمنة بعض الكتاب على اقتراح ضيوف المعرض (مثلا).
من جهة ثالثة، صارت المشاركة في معارض الكتاب رهانا لبعض آخر من الكتاب (القاهرة، بيروت، دبي، مسقط،…). ومثلما كانت المشاركة في المجلات المشرقية في وقت سابق (مواقف، الكرمل،…) جالبة لأصحابها قدرا من المجد الأدبي، وثمار العلاقات مع مصادره من الكتاب العرب المكرسين، باتت المشاركات في معارض الكتب تحصيلا لنوع من الحظوة الأدبية المتسعة، عبر الإشعاع خارج الإقليم والوطن الواحد. ولذلك، من حقنا متابعة ذلك “التفاخر” الملحوظ، عبر التركيز المبالغ فيه على تصوير الحضور الشخصي، في مثل هذه التظاهرات.
وفي ما يمكن رصده من وسائل التكريس، يمكن إضافة عنصر آخر. هذا العنصر بات يتصل بالسعي إلى التواجد داخل رحاب المؤسسات الجامعية، سواء عبر إنجازات قراءات أدبية أم إجراء حوارات مفتوحة مع الطلاب، أم اقتراح نصوص أدبية لتكون مواضيع للبحوث الجامعية (الإجازة، الماستر والدكتوراه). كل مشاركة، في هذا الإطار، حتى ولو كانت محدودة في تأثيرها، تدفع بصاحبها إلى “تبريزها”، حتى توحي إن لم تؤخذ على أن صاحبها انتقل إلى التكريس.
من بين كل ما ذُكر سابقا، برزت وسيلة أخرى، أكثر فعالية بالنسبة لقضية التكريس. المقصود بهذه الوسيلة تحديدا: “تأسيس جمعية أدبية في جنس أدبي معين” بشكل فردي أو جماعي. هناك كتاب، وحتى أشباه كتاب، باتت لهم جمعياتهم (روابطهم، نواديهم،…). كيفما كانت الجمعية، كبيرة أم صغيرة، محلية أم إقليمية أم وطنية، إلا أنها أضحت الأكثر اختصارا، بالنسبة إلى صاحبها، في ضمان قدر مهم من الحضور الشخصي (أكثر من قدره الأدبي هو نفسه). ففي إطار نوع من العلاقة مع الجهات المانحة (الجماعات، العمالات، الوزارات،…)، يمكن توفير الجوانب المادية لتنظيم الملتقيات الأدبية، طبع الكتب ونشرها، إقامة مسابقات وجوائز أدبية وغيرها. والأهم من كل هذا، في سياق ما نحن فيه من حديث، هو فرض صاحب الجمعية نفسه لاعبا ثقافيا ضروريا، يستضيف ويُستضاف، يكرِّس غيره، ويكرَّس من غيره، في صورة ما يمكن تسميته “تبادل المنافع والخدمات”.
في الختام، من الجدير الإشارة إلى أن هناك إمكانية لتناول موضوع التكريس من جوانب عديدة. إلا أن أهمها هو الجانب السوسيولوجي، في إطار نوع من البحث المعمق، المؤيد بالاستبيانات والاستمزاجات والإحصاءات. إن تكريس أدباء على حساب آخرين، له علاقة بالسلطة الأدبية- الثقافية من جهة، والسلطة السياسية بمعناها الواسع من جهة ثانية (الإيديولوجية في ما يتصل بالقدامة والحداثة، المحافظة والتنوير…). التكريس، له علاقة وثيقة بمسألة القيم والذوق من جهة ثالثة.