بعيدا عن الخوض في التعريفات التي أعطيت لمفهوم الهجرة ، إلا أنها تبقى في معناها الشامل والإيجابي ، ظاهرة إنسانية ساهمت بصورة كبيرة في التلاقح الحضاري الإنساني ، وفي انتشار المعرفة والأديان والعلوم و الثقافات .
كما لا يمكن إقران الهجرة ، فقط بجانبها السلبي المرتبط البهجرة غير النظامية و بالمقارنة الأمنية والقانونية ، بالنظر للتشديد الذي أضحت تعرفه قوانين الهجرة في العديد من الدول ،بل كذلك لنزيف هجرة الأدمغة وتأثيراتها على معدلات التنمية للبلاد المصدرة لها .
وبالمقابل فلا غرابة ، أن تقود معظم الدول برامج ومخططات إقتصادية و سياسات للتتبع وتشجيع رعاياها المهاجرين الى العودة الى أرض الوطن والاستثمار فيه ، وكذلك للإستفادة من الخبرات التي راكموها طيلة سنوات الهجرة ، وإشراكهم في صناعة قراراتها وتجويد ادائها في مختلف المجالات ، خاصة الحيوية منها والمرتبطة بالاستثمار والتجارة والصناعة والعلوم ، و لتبحث كل دولة خاصة النامية منها ، عن الأسباب والدوافع التي جعلت مواطنيها يهاجرون وحتى يهجرون غصبا من وطنهم ليضعوا ملكاتهم وقدراتهم لخدمة بلد آخر وشعب آخر ...
ليس بالغريب في وطني المغرب ياسادة ، ألا يبحث المسؤولون أسباب هجرة الأدمغة ، وأزمة الجامعة المغربية ، وأزمة البحث العلمي بها ، دون الإكتفاء بإعطاء الإحصائيات والأرقام ، بدل التفاخر والتباهي ، أمام كل نبأ وخبر عن نبوغ نساء ورجال الوطن في السياسة والاقتصاد والطب والاختراعات وغيرها في بلاد المهجر، ليفوتنا أن هذا النبوغ كان عليه أن يكون داخل الوطن ، ولصالح الوطن .
إن هجرة الأدمغة بمتابة تهديد مباشر لعمليات التنمية في ظل معدلات أمية عالية في العالم العربي تصل في بعض التقديرات إلى أكثر من 27%. وتشير دراسات عدة إلى أن العالم العربي خسر جراء هجرة الأدمغة ثلث طاقته البشرية، وما يقارب 50% من هؤلاء أطباء متخصصون، و23% تقريبا من المهندسين، والبقية من مجالات مختلفة.
ويعتبر المغرب ورجوعا إلى أحد التقارير الأخيرة الصادرة عن منظمة اليونسكو لرصد التعليم في الدول العربية ، أن أعلى معدلات الهجرة للأدمغة إلى الخارج تشهدها كل من لبنان والمغرب على وجه الخصوص، حيث يهاجر واحد من كل 4 أشخاص من ذوي الكفاءات العالية.
المغرب الذي شرع في سن تدابير وسياسات من أجل إعادة استقطاب الكفاءات، لتساهم في تطوير المجتمع في مجالات التعليم والتكنولوجيا والرقمنة ، في ضل التنافس العالمي على المهارات العالية التي شكل اهتمام العديد من البلدان المتقدمة.
فظاهرة هجرة الأدمغة والكفاءات أصبحت هاجسا مخيفا للحكومات والمنظمات على السواء، نظرا للآثار السلبية المترتبة عنها ، والمتعلقة مباشرة بالتنمية المستدامة والتطور والنمو الاقتصادي للدول.
فأصبح المغرب معها مطالبا في إيجاد حلول عاجلة ليس فقط لوقف نزيف هجرة الأدمغة بل كذلك إلى سن سياسات عمومية تهدف إلى وضع خطة واقعية للاستفادة من كفاءاته وخبراته بالخارج .
ختاما يا سادة ، إن الأوطان التي لا تصون شبابها ولا تحترم علماءها وتنصف كفاءاتها، وتتبجح فخرا عندما ينبغ واحد من أبنائها بعد أن هاجر ، هي أوطان تحتفل بالانتصار في رداء الهزيمة، لتتهرب من أن تلقي على نفسها مسؤولية هجرة كفاءاتها و لتشغل نفسها ببحث فلسفات أسباب الهجرة في صالونات ومجالس مكيفة دون أن توجه جهدها للحد من هجرة طاقاتها وأدمغتها وتعمل على استعادتها، وتراكم جامعاتها أبحاتها عام تلو عام ليعلوها الغبار وتسكنها العناكب في رفوف مختبراتها ومكاتبها ، بدل أن تعتمد هذه الأبحاث والأطاريح في وضع سياسات ومخططات ناجعة لوقف نزيف هجرة اللأدمغة والكفاءات .