تحليل

الجابري.. حفريات في ذاكرة مفكر بمشروع- الجزء الثالث

زازيد جبران

- نظرة الجابري للتيارات النهضوية بالعالم الإسلامي والعربي.
شكلت "أزمة كورونا" مناسبة لتطفو على سقف بيتنا سجالات  تعيد النقاش حول جذور وأسباب تخلفنا الذي زاد اليوم انفضاحا وتعيد طرح سؤال النهضة، فقدم كل تيار مرافعاته .
هي سجالات قديمة تتجدد بتجدد الأزمات وتتجذر باستمرار تجذر التأخر الحضاري فينا، فلسنا من الذين يعيشون لكل زمن ثقافي قضاياه وأسئلته. لذلك يبقى استحضار الجابري في هذا السياق يفرض نفسه، لقوة طرحه المشتغل على هذه القضايا والأسئلة بروح نقدية إحيائية  واقتراحية.
إن كان سؤال النهضة يشكل محور اشتغال عدد من التيارات النهضوية قبل تشكل مشروع الجابري، فإنه لم يكن ممكنا لهذا الأخير أن يقدم على تأثيل مشروعه دون الغوص بالبحث والنقد في مشاريع هذه التيارات:
• التيار السلفي: شهد الجابري لهذا التيار بالأصالة في الدفاع عن الذات ضد الهجوم والاكتساح الحضاري الغربي، متحصنا بالتراث القديم. إلا أن الإشكال الذي وقع فيه حسب الجابري هو أنه ظل رهين الماضي ولم يلتفت للمستقبل الآتي الذي غدا مستقبلا ماضيا عنده. خصوصا بعد الوقوف على هول الفارق الكبير بين التقدم الحضاري والعسكري والتكنولوجي والثقافي الغربي وبين الانحطاط والجمود الحضاري الذي تعيشه الشعوب الاسلامية والعربية في أغلب الميادين. لذلك رأى الجابري أن معالجة إخفاقات هذا التيار تتمثل في " أن يحصل تكتل تاريخي بين القوة المعبئة وبين القوة المفكرة، أي بين القوة التي توظف المستقبل الماضي والقوة التي لها قدرة على الارتباط بالمستقبل الآتي، إذا لم يقع هذا النوع من التكتل والكتلة التاريخية لن يسهل الخروج من عنق الزجاجة".
• التيار الاستغرابي: هذا التيار الذي يدعو إلى الارتماء الكلي في أحضان الغرب والتخلص من التراث باعتباره عائقا نحو التقدم والتحضر. يعقب الجابري على  أصحاب هذا التيار بأنهم ينظرون للتراث من فضاء معرفي آخر، وبأنهم تناسوا أن هذا الغرب لن يسمح لهم بالتقدم والتطور، بل إنه يتحول لكاسر قوي وشرس لأي نمو تصاعدي يحتضنه أصحاب هذا المشروع . فالغرب يريد فقط  من أصحاب تيار الاستغراب أن يقلدوه ويكونوا أدوات له في بلدانهم المتخلفة، من أجل تنفيذ سياساته التوسعية التسلطية والاستنزافية. هذه الحقيقة حسب الجابري جعلت هؤلاء يتعامون على حقيقة الغرب المزدوجة في كونه نموذج للتطور والتقدم، وفي نفس الآن خصم حسود يغيظه بروز منافس له في هذا الاتجاه.
• التيار الماركس: اعترف الجابري للماركسية بأهميتها، بل إن من أهم الآليات المنهجية التي اعتمدها في دراسته للتراث العربي الإسلامي كانت ذات  تمظهرات ماركسية (المنهج التاريخي نموذجا). إلا أن الجابري يعتبر أن استدعاء هذا التيار لقوالب جاهزة من واقع أوربا في القرن 19، من واقع مجتمع رأسمالي متطور والعمل على إسقاطه على واقعنا هي إحدى المطبات التي وقع فيها ولم يخرج منها. لذلك وقع هذا التيار حسب الجابري في اصطدام وعدم التوافق بين تلك القوالب المستوردة وبين واقع بلداننا ومعطياتنا المحلية.
 يقول الجابري في كتابه التراث والحداثة: " هناك أخيرا صورة عصرية أخرى ماركساوية الادعاء أخذت تزاحم، منذ بضع سنين، الصورة الإستشراقوية لتراثنا، هذه الصورة الماركساوية تتميز عن سابقتها بكونها تعي تبعيتها للماركسية و تفاخر بها و لكنها لا تعي تبعيتها الضمنية للإطار نفسه الذي تصدر عنه القراءة الإستشراقوية لتراثنا، إن الأحادية التاريخية التي تحاول هذه الصورة اعتمادها، كمنهج مطبق و ليس كمنهج للتطبيق، مؤطرة داخل إطار المركزية الأوربية، إطار عالمية تاريخ الفكر الأوربي، بل التاريخ الأوربي عامة، و إحتواءه لكل ماعداه، إن لم يكن على صعيد المضمون و الاتجاه فعلى الأقل، و هذا أكيد على صعيد المفاهيم و المقولات الجاهزة،... و هذا ما يجعل الصورة الماركساوية لتراثنا العربي الإسلامي تقوم هي الأخرى على الفهم من الخارج لهذا التراث، مثلها مثل الصورة الإستشراقوية سواء بسواء". إضافة إلى أن الجابري يؤاخذ على الماركسيين أنهم  أنشؤوا علاقة ايديولوجية مع التراث.
• التيار القومي: كان طموح هذا التيار هو إنشاء إطار وحدوي وكيان موحد يجمع العرب، وما تأسيس " جامعة الدول العربية" إلا إحدى تجلياته. اعتبر الجابري أن أزمة هذا التيارتتمثل في أنه يفكر قوميا لواقع مجزأ، لينتهي الأمر بهذه الجامعة "منظمة تطفي الشرعية على كل قطر عربي".
الخلاصة الكبرى التي خرج بها الجابري من خلال تقليبه لهذه التيارات، أنها انتهت بالفشل في ايجاد تعريف واضح لمضمون النهضة وتحديد المداخل الناجعة والواقعية والمعقولة إليها. بل اعتبر أبرز هذه التيارات بأنها "سلفية" منتقدا منظومتها المرجعية ، فإلى جانب سلف السلفية أطلق على التيارين الأخرين سلف الليبرالي وسلف الماركسي.
يتبع..