تحليل

الجابري: حفريات في ذاكرة مفكر بمشروع الجزء 4

زازيد جبران

سياق بروز مشروع الجابري

 

إن كان مشروع الجابري الثاني حول القرآن الكريم جاء نتيجة أحداث 11 شتنبر 2001، فإن مشروعه الأول في نقد العقل العربي جاء في سياق تداعيات نكسة 1967 والهزيمة المخزية أمام إسرائيل. فهي لم تكن نكبة عسكرية وسياسية فقط، بل كانت أكبر من ذلك، هي مشكلة حضارية بالأساس. هذه النكسة حركت عددا من المفكرين والمثقفين بالبلاد الإسلامية والعربية لإعادة طرح سؤال التفكك والانهزام  والويلات المستدامة لهذه البلدان في أي منعرج تاريخي نصادفه في مسارنا التاريخي. فدور المثقف أن يقدم المعرفة لمعالجة الفراغات التي تحدثها الأزمات. ويعتبر الجابري من المفكرين الذين أثلوا مشروعاتهم بعد النكبة، فعمل على البحث والحفر في أسباب هذه الصدمات المتوالية.

يرجع الجابري سبب الهزيمة أمام إسرائيل بالأساس إلى أن مشاريع الإصلاح أغفلت البعد الديني الذي استطاعت إسرائيل توظيفه بمكر، بحيث أن قيامها على أساطير دينية مستلهمة من التلمود والتوراة، التي تتحدث عن أن هناك عودة للمسيح لفلسطين، جعل إرادة اليمين المسيحي تتوافق وأهداف المشروع الصهيوني بفلسطين، وهو ما مكن إسرائيل من تجييش أوروبا المسيحية معها.

فإسرائيل حسب الجابري لم تكن تحارب بسلاح العسكر فقط، بل استخدمت سلاحا أقوى هو الأسطورة الدينية. فمشاريع الإصلاح تناست البنية العميقة للمشروع الفكري للصهاينة. لذلك عمل الجابري على نبش هذه القضايا الشائكة وإعادة صياغة الأسئلة وما يترتب عليها من ضرورة الإجابة عليها.

بالرجوع إلى مشاريع النهضة التي ظهرت قبل النكسة ، فقد ركز الجابري في بحثه أكثر على مشروعي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. ليطرح كخلاصة أن جمال الدين الأفغاني ظن أنه يمكن إحداث تغيير جذري عبر إصلاح المجال السياسي وإقامة الدولة، للتمكن من المشروع النهضوي المنشود. 

اعتبر الجابري أن الأفغاني استخدم السياسة في الدين، ففشل لقصور نظره عن الظاهرة الاجتماعية في شموليتها، ولكونه كان مشروع ردة فعل وليس مشروعا استراتيجيا للمستقبل، فلم يكن هم الأفغاني الإجابة عن سؤال ماذا بعد طرد المستعمر؟

أما محمد عبده الذي رافق الأفغاني لزمن ليفارقه فيما بعد، بعد أن فرقت بينهما الرؤى، عمل على صياغة مشروعه النهضوي المرتكز أساسا على مدخل المؤسسة التعليمية الدينية، والعمل على تقويتها، وهنا جاء طلب محمد عبده من "اللورد كرومر" منح الأزهر والمؤسسة الدينية سلطات أكبرفي اتخاذ القرار. لذلك قال عنه الجابري أنه مارس الدين في السياسة.

هذه النظرة التجزيئية لمشاريع الإصلاح والانطلاق منها لإقامة مشروع حضاري للأمة هو ما ضبب عليها حسب الجابري تحديد مضمون واضح  للمقصود بالنهضة.

لذلك اعتبر الجابري أن المدخل الأساسي لتجاوز هذه العقبة هو البحث في مصادر تكوين العقل العربي، لأنه المسؤول عن نهضتنا أو تأخرنا، فعمل على تدشين صياغة مشروعه الأساسي المعروف ب "نقد العقل العربي"، الذي أصدره في أربعة أجزاء(تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي،العقل الأخلاقي العربي). غير أن تدشين هذا المشروع بدت إرهاصاته الأولى مع كتابه الأول سنة 1971 "العصبية والدولة" – في أصله أطروحة دكتوراه- الذي يعتبر قراءة جديدة لتراث ابن خلدون، ليتبعه بكتاب " نحن والتراث" في مستهل ثمانينيات القرن الماضي، والذي من خلاله أراد الجابري تحييد الذاتي عن الموضوعي في قراءة التراث، وبناء ذات قارئة وموضوع مقروء. وقد اعتبر كمال عبد اللطيف أن هذا الكتاب هو العمل التأسيسي لمشروع نقد العقل العربي.

يتبع...