تحليل

الجابري: حفريات في ذاكرة مفكر بمشروع الجزء 5

زازيد جبران
المحددات المتحكمة في العقل السياسي العربي
قبل أن يشرع الجابري في تقديم هذه المحددات الثلاث (القبيلة والغنيمة والعقيدة)، قام باستعارة مجموعة من المفاهيم من مفكرين غربيين لتساعده في تحديده، وقام بإسقاطها من بيئتها الغربية على البيئة الإسلامية والعربية. وتجدر الإشارة إلى أن الجابري كثير الاستناد على المرجعية الفلسفية الفرنسية، أمثال "ميشال فوكو" و "أندريه لالاند" و"برتران بادي" وريجيس دوبريه" و"غاستون باشلار" وغيرهم، هذه الأسماء المعروفة بانشغالاتها في دراسة المؤسسات الاجتماعية. وبالعودة إلى المفاهيم التي استعارها الجابري من بعض هؤلاء المفكرين، نجدها تتمثل في:
• المجال السياسي: هو مفهوم استعمله عالم الاجتماع الفرنسي "برتران بادي" الذي توصل من خلال تحليله للممارسة السياسية بأوربا، أنها تغيرت تماما بفعل بروز مكانة عنصر جديد الذي هو الشعب، إثر الصراع بين الكنيسة والملك، مما مكن الأفراد أن يصنعوا لأنفسهم منزلة بينهما.
• المخيال الاجتماعي: استقدم الجابري هذا المفهوم من الحقل الاجتماعي والانتربولوجي، هذا المخيال يمثل القيم والتصورات والدلالات والرموز التي تمنح للاديولوجية بنيتها اللاشعورية.
• اللاشعور السياسي: استعار الجابري هذا المفهوم من الفرنسي "ريجيس دوبريه"، الذي تناول القضية الاشتراكية بإسقاطاتها و واقعها في الاتحاد السوفياتي سابقا. عمل الجابري على إسقاطه على تحليله للعقل السياسي العربي. ف"دوبريه" اعتبر أن الظاهرة السياسية انعكاس للاوعي الناس السياسي.
أسقط الجابري هذه المفاهيم وبيئها و وظفها في تسطير محددات العقل السياسي العربي، والمتجلية في:
• القبيلة : هي ما يسميها ابن خلدون بالعصبية، أو ما يطلق عليه الأنتروبولوجيون الغربيون "القرابة"،التي من أبرز أركانها قرابة الدم. إلا أن الجابري لا يحصر القرابة في الدم فقط، بل ينقلها للدولة والمدينة والحي...
• الغنيمة: هي ما عرف سابقا بالفيء والخراج، واعتبرها الجابري ليست وليدة عملية إنتاجية، فقيام الاقتصاد عليها هو تكريس للريع – يظهر لنا كمثال صارخ اعتماد دول الخليج على النفط بشكل أساسي ولم تستطع بناء اقتصاد منتج وفعال-.و وضح الجابري أن زمن الاستعمار كانت الشعوب صابرة على المستعمر وهو ينهب الخيرات ويستنزف الثروات، ولكن بعد الاستقلال استمر النهب والاستنزاف من أبناء جلدتهم فتوسعت الفوارق بين الطبقة الفقيرة وأخرى غنية، وهو ما شكل وعيا بأن هناك "اقتصاد غنيمة"، يغنم ثروات ومصالح لفائدة فئة دون أخرى.
• العقيدة: حسم الجابري أن ليس قصده منها النصوص الدينية بذاتها ولا الأحكام الشرعية، وإنما قصده ما ترسب عند الناس من تصورات عقدية صحيحة وغير صحيحة، فلا يقصد مضمون العقيدة الإسلامية بل فعل الاعتقاد نفسه.
حسب الجابري فهذه المحددات الثلاث هي من يحكم العقل السياسي العربي، وما زالت تحكمه. ويعتبر أن من مهام الفكر الإسلامي والعربي اليوم " تجديد العقل السياسي، ويتجلى ذلك فيما يلي: أولا تحويل القبيلة إلى مجتمع منظم مدنيا وسياسيا واجتماعيا، ثانيا تحويل الغنيمة إلى اقتصاد ضريبة واقتصاد منتج، ثالثا تحويل العقيدة إلى مجرد رأي، ومن ثم التعامل بعقل اجتهادي نقلي".
----------------------------------------------------------------------------------------
إشارة: بحلول 3 ماي وهي الذكرى العاشرة لوفاة الجابري رحمه الله، كانت نيتي تدبيج تدوينة فقط بهذه المناسبة، إلا أن إشارتي لبعض الإشكالات التي طرحها الجابري( التراث- العلمانية – محددات العقل العربي- الأنظمة المعرفية- الديموقراطية وحقوق الانسان- الحداثة- المقصود بالعقل- مهام العقل الاسلامي والعربي- السلط الثلاث المترسخة فيه...) رأيت أخلاقيا أنه يجب بسط تصور الرجل حولها. وبعد استرسال عدد من التدوينات أشار علي بعض الأصدقاء المتابعين لها مشكورين، إلى أنه من الأفضل إعداد دراسة مجمعة وشاملة لما يتوفر لدي حول الرجل. وإن كنت أرى نفسي لست أهلا لذلك، ليس تبجيلا وتقديسا للرجل فكل يؤخذ من كلامه ويرد، ولكن فن النقد والبحث في مثل هذه المشاريع الضخمة لها أعلامها المتخصصين. لذلك سأتوقف عن استكمال التدوينات إلى حين إعداد هذا البحث كاملا.