قضايا

كورونا خارطة طريق جديدة

ابراهيم أقنسوس

من حق بلادنا كغيرها من بلاد العالم، أن تستفيد إيجابا من هذه الجائحة، وأن تستثمرها على أحسن الوجوه، بما يخدم قضايانا الحيوية والملحة، فكل بلاد الدنيا تستعد هذه الأيام، لاستقبال ما بعد كورونا بإرادات قوية وبرامج مضبوطة ومشاريع واضحة، تشكل خارطة طريق جديدة، من شأنها أن تخرج أوطانهم من شرنقة هذه الآفة، وتضعها على السكة الصحيحة، وبالنسبة إلينا فالمنتظر أن تكون الأولويات قد تأكدت وازدادت وضوحا، بالنظر إلى القضايا الجوهرية التي يتحتم علينا التركيز عليها الآن. لقد كانت (كورونا) بمثابة الكشاف الذي وضع بلادنا أمام الحقيقة، بالنسبة لثلاث قضايا أساسية على الأقل، الصحة /التعليم / الشغل.

فرغم المجهودات الكثيرة التي بذلت من أجل تطويق الجائحة، والتحكم في مساراتها غير المنضبطة، فإن قطاع الصحة في بلادنا بدا مرتبكا ويشكو أعطابا بنيوية كثيرة، سواء من حيث الموارد البشرية أو المعدات الضرورية، ناهيك عن تخلفنا البين على مستوى البحث العلمي، مقارنة بغيرنا من الدول المتقدمة أو الصاعدة كما نريد أن نكون. لقد تعرضت أطقمنا الطبية المحدودة إلى إنهاك شديد، ولولا لطف الله، والخطة الاستباقية الموفقة التي تمت المبادرة إليها، على أعلى مستوى، لكنا اليوم في وضع كارثي لا نحسد عليه، ما يعني أن الحاجة ماسة وبلا تردد، إلى اعتبار قطاع الصحة أولوية وطنية، والبحث العلمي الجاد في المجال الطبي ضرورة لا تقبل التأجيل، يكفي القيام بزيارة لمستشفياتنا العمومية في الأيام العادية، ليتم الوقوف على الحقيقة المؤلمة، فلا يكاد يوجد مواطن عاد ليست له قصص وروايات يحكيها ألما وحسرة على مشاهد ومواقف، تتكرر باستمرار في جل مرافقنا الصحية العمومية، أما الخصوصية فتلك حكايات أخرى.

نفس الكلام يصدق أيضا، بالنسبة إلى قطاع التعليم، فرغم كل المجهودات التي بذلت، من طرف جل الأطر التربوية والإدارية، فإن حكاية التعليم عن بعد، أبانت عن نقص كبير في مجال هذا القطاع الحيوي، الذي نعتبره أولوية وطنية، وكان محور مجموعة من المناظرات واللقاءات والأوراش والتكوينات، ورصدت له ميزانيات ضخمة، لم نعرف إلى حدود الساعة شيئا مضبوطا عن مصيرها ومآلاتها، بعد تقارير المجلس الأعلى للحسابات. لقد تأكد مرة أخرى مع (كورونا)، أن قطاع التعليم في بلادنا هو القاطرة، التي لا حركة للعربات بدونها، وأن كل القطاعات الأخرى لها تابعة، هذا إذا كنا بحق نريد الالتحاق بمصاف الدول الرائدة أو الصاعدة كما ندعي، فحاجتنا ماسة إلى سياسة تربوية جادة ومواطنة، إلى أطر تعليمية كافية ومؤهلة، إلى برامج ومناهج تبني العقول وتصنع الإنسان المعاصر، القادر على مواجهة مستجدات الحياة والمساهمة الإيجابية في خدمة بلده، بمنطق العلم والسؤال والعمل الجاد، وكل هذا ممكن متى ما توفرت الإرادة الحقيقية، التي تعني الحكامة الحقيقية والواقعية، لا الورقية والخطابية. ورأس الأمر كله في هذا الباب كامن في ضرورة، إعادة الاعتبار حقا للمدرسة العمومية وتمكينها من كل أسباب النجاح الأساسية، المادية منها والمعنوية، بما يؤدي في النهاية إلى انخراط كل الشرائح الاجتماعية في التعليم العمومي، والتخلص من المتاجرة بالشأن التربوي والقطع مع أشكال التعليم الطبقي، الذي يجعل الكثير من الفقراء، رهينة في يد المضاربين والمتاجرين بشأننا التربوي.

وبنفس المنطق والإرادة، على بلادنا أن تتصدى لآفة البطالة، فقد أبانت (كورونا) عن تفشي الفقر والحاجة، في قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين، وأن ثروات البلاد لا يتم توزيعها بمنطق المواطنة، ولا يستفيد منها إلا القلة القليلة، عبر أساليب ومسلكيات غير شفافة، ويصعب رصدها، ما يعني تكريس الهشاشة الاجتماعية، وتدني مستويات العيش إلى حدودها الدنيا، التي تعني الحرمان من كل الضروريات والأساسيات للاستمرار في الحياة، ولا مناص من إيلاء شأن التشغيل ما يستحقه من اهتمام، فبلادنا تعج بالموارد البشرية المعطلة، التي تحتاج إلى من يحتضنها ويساعدها على الاندماج الإيجابي في الدورة الاقتصادية، عبر بوابات ومسلكيات تتيحها المدخرات الطبيعية والمالية الوطنية، ولا يمكن التعويل على منطق المساعدات والمعونات الجزئية، لحل الإشكالات البنيوية كالبطالة، فالشغل كرامة قبل أن يكون رغيفا ورصيدا ماليا زهيدا، وكل هذا ممكن مرة أخرى، متى ما توفرت الإرادة الحقيقية وتخلصنا من منطق الريع، وإسناد المناصب والأعمال والأشغال إلى الذوات والقرابات العائلية والسياسية والمصلحية، فلا مواطنة بلا شغل.

إن كل دول العالم المتقدم اليوم، تعتبر آفة (كورونا) مناسبة سانحة، لوضع خارطة طريق جديدة، عنوانها، تعزيز المكتسبات القديمة، والبحث الجدي والمواطن عن حلول معقولة لكل الإشكالات والمعوقات التي أبان عنها هذا الداء، والبدايات المنطقية ستكون كلها بهذه القطاعات الأمهات، الصحة، التعليم، التشغيل.