رأي

عبد الدين حمروش: اللّغة والعُنصريّة.. جورج فلويد

تتداول وسائل الإعلام، هذه الأيام، اسم الأمريكي جورج فلويد بكثافة. والسبب في ذلك يعود إلى الجريمة، التي كان ضحيتها جورج "تحت ركبة" أحد رجال الشرطة. إلى اليوم، ماتزال جذوة الاحتجاج تعمّ الشوارع الأمريكية، رفضا للعنصرية المُتصاعدة بشكل مُنَظم، منذ قدوم اليميني ترامب إلى البيت الأبيض.
وإذ قضى فلويد بفعل العُنصرية المقيتة، تكاد تستعيد وسائل الإعلام حادث الجريمة نفسه، حين الحديث عن الضحية الأمريكي، واصلين إياه بـ"ذوي الأصول الإفريقية". السؤال، الآن، هو: لماذا يتمّ الحديث عن "الأصول" فحسب، كلما كان المقصود الإشارة إلى "فئة" من الشعب الأمريكي؟ وبالمقابل، لماذا لا يتمّ اللجوء، بالمثل، إلى الحديث عن الفئة الأخرى، من الأصول الإيرلندية أو الإنجليزية مثلا؟
لقد أقام فلويد وأمثاله، وقبلهم أجداهم، على مدى عدة قرون، في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من مدة الإقامة الطويلة تلك، يظل هؤلاء مجرد "أمريكيين" من أصول إفريقية. يبدو أن العبارة التوصيفية، بالحديث عن الأصول، إنما تستهدف تَجنُّب الإحالة إلى اللون (الأسود). الأمر يتعلق بعبارة "شعرية"، بحكم ما تنطوي عليها من مُخاتلة وتمويه. وهي تؤدي هاتين الوظيفتين، "تسقط" عبارة "من ذوي الأصول" في شرك عنصرية أخرى. الأفارقة، الأمريكان اللاتين، الصينيون، جميعهم يتمّ توصيفهم بالإحالة إلى أصولهم، بمن فيهم سكان أمريكا الأوائل من الهنود.
العنصرية واقع منظم ومنهجي في الولايات المتحدة الأمريكية. حادث مقتل فلويد، بالطريقة البشعة التي حصل بها، كان مجرد "مُفجِّر" لسيرورة الاحتجاجات الحالية. لا نريد الوقوف على هذه السيرورة، الآن، وما استُعمل فيها من خطابات ورموز، من قِبل البعض إزاء البعض الآخر: ترامب وتحالفُه (الأنجليكاني، الصهيوني، المالي، إلخ) إزاء فلويد والمطالبون بدمه (من الديمقراطيين، الأقليات، الكُتّاب والفنانون، إلخ).
الرسالة، بوضوح، هي: ضرورة كفّ وسائل الإعلام عن الإحالة إلى "الأصول"، الإفريقية بوجه خاص. حين يلجأ الإعلاميون والسياسيون إلى عبارة الأصول، تَخفُّفا من الإحالة إلى ذوي البشرة السوداء، مُباشرة، إنما يُمعنون في جعل هؤلاء مجرد ضيوف في بلادهم، على الرغم من أنهم لا يعرفون بلادا غيرها. "الأقليات" و"المُلوَّنون"، بتعبيريْن آخريْن، يصيرون "ضيوفا" جميعا، لدى أصحاب "البيت الأبيض" من الإنجليز والإيرلنديين، الذين هم وافدون، بحكم التاريخ، أيضا.
ونحن نستحضر الضحية الأمريكي، لابد من استدعاء الشاب الفلسطيني مصطفى محمود درويش يونس، الذي قُتل برصاص قوات الاحتلال الأسرائيلي، على الرغم من مُعاناته من مرض الصرع. في حالتي الضحيتين، يبقى الشِّعر الأقدر على تسمية الأشياء بأسمائها، من دون الالتجاء إلى التفافية ديبلوماسية الإعلام (المُنافقة). حتى وهو يُكنّي ولا يصرح، يقول الشِّعر الحقيقة الجذرية الصادمة، التي سرعان ما تسكن الوجدان الإنساني العالمي. يقول محمود دريش من قصيدة:
عارٍ من الاسم، من الانتماءْ ؟
في تربة ربَّيتها باليدينْ؟
أيوب صاح اليوم ملء السماء:
لا تجعلوني عبرة مرتين!
يا سادتي! يا سادتي الأنبياء
لا تسألوا الأشجار عن اسمها
لا تسألوا الوديان عن أُمها
من جبهتي ينشق سيف الضياء
ومن يدي ينبع ماء النهر
كل قلوب الناس... جنسيتي
فلتسقطوا عني جواز السفر!