قضايا

لـعـبـة الـشـر الـمـاكـرة

سلام بكوري

لا يجادل أحد كون مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا الفيسبوك، عبارة عن واجهة للمستخدم الذي عبرها يعطي لمحة عن نفسه وعن حياته للآخرين، لترك انطباع محدد عنه... فهو يكتب يعلق يأخذ صورا لنفسه أو مع فنجان قهوة و في مكان سياحي ويتطلع بشوق غزير للحصول على "لايك" يمنحه الإحساس بالرضى حين تنهال عليه التعليقات مثل "راك منور" "تبارك الله عليك" "بالصحة والراحة"... فصار الإعجاب الافتراضي أهم للناس من الإعجاب الواقعي، وتحولت إلى ثقافة مجتمعية تنتج منطقها وأخلاقها وقوانينها وشروطها السياسية.

فعندما أقرأ بعض التغريدات والتعليقات المدونة على الحائط الأزرق لمواقع التواصل الاجتماعي، ينتابني شعور غامض وملتبس كأنه لغز ميتافيزيقي .. أجد نفسي في مجال غير مألوف وفي نفس الآن أشعر أني عثرت على شيء ما...

إنه الخائب الممزق... المتشظي... المتناثر على السطح.. وخلف هذا كله.. تقبع لعبة عنيفة أخرى أكبر وأخطر.. طالما كانت منبع تساؤلي .. ما هي هذه اللعبة!؟ وكيف تشتغل!؟

إنها لعبة الشر الماكرة.. إلا أن كلمة لعبة هنا لا أعني بها وجود طرف رابح وآخر خاسر.. بل فقط نوبة لعب..

فأحيانا ينشر الإنسان شيئا.. وتركيزه ينصب على شخص معين.. لمعرفة تفاعله المعلوماتي.. ما إن كان سيبدي إعجابه ويضع "لايك" أم لا.. وأحيانا أخرى ينشر مستخدم تغريدة وهو يرغب من أعماقه ومن خلالها تمرير رسالة إلى شخص معين.. تهدف إلى إشباع أحاسيس التمكن الاجتماعي والتفوق على مستوى إدارة الواقع ذاتيا كافتراس نفسي للآخرين.. وفي كلتا الحالتين يتخذ أسلوب إشاعة الأفكار عن طريق سلاح العنف الذي قد يكون أبيض أو أسود أو رمادي .. ولكن السلاح الأخطر هو هذا الأخير .. لأنه سلاح سلوكي وثقافي يعتمد على شيوع الوشاية الكاذبة كسلوك يشبه الإدمان أو الواجب اليومي أي نوع من العبودية المرضية ...

ففي مناخ النفاق الاجتماعي يكون الواشي أقل عرضة لتأنيب الضمير ... فيقوم بكبح مشاعر تأنيب الضمير بطرق تضليلية .. كالمحاباة، والتحلل الخلقي، أو يقوم محترف الوشاية بابتداع تطميناته وترضياته النفسية بطرق احتيالية .. وفي غالب الأحيان تكون هذه الطرق على قدر كبير من الفطنة والدهاء .. سرعان ما تتحول هذه الوشاية الصغيرة إلى سلسلة معقدة من الإدانات

إن الواشي هنا .. عبر هذه المتاهة الافتراضية يقوم بتطمين ضميره عن طريق تسفيه وتحجيم دوره الشخصي في الوظيفة العدوانية التي يمارسها (السفيه ينطق بلي فيه) كما يقول المثل الشعبي .. فهو لم ينطق سوى بكلمة أو عبارة أو جملة قصيرة لكنها تبقى نطقا على حد تعبير عبد الجبار النفري (سجن كل امرئ إذا نطق) باعتبار أن اللغة هي مرآة الوجود وبها ينعكس الفكر على نفسه.

هذا الدفاع المستهجن الإنكاري ينطبق على تبرير السلوك العدواني الثقافي وليس على ممارسة العنف المباشر فحسب ...

فالعقل الواشي يبدأ بالإنكار لكي يخنق دلالات الواقع المتحقق، والذات الواشية تجتهد في اختراع خفايا تضليلية أخرى لتبرير سبب وقوع الموشى به في الخطأ ...

بهذه الطريقة يوهم الواشي نفسه بأنه يخدع ذاته حينما يستبدل الكلمات ...

فالحق في زمن النفاق لا يعني سوى القوة .. والقوة هنا كما يقول فرويد هي العنف .. أي أن الواشي يسلم أخاه إلى الذبح بضمير مستريح، " باسم  المجتمع " فهو لا يعتبر الشحن العاطفي والتوظيف العنفي المبطن أو السافر جزء عفوي من منظومة بناء آليات القوة العامة ... إنه ينام على نغمات التغريد والتغريد المضاد .. كلما سمع خبر سقوط ضحية من الأقربين أو الوسط الذي يشتغل به خاصة ...

بهذه الطريقة العدوانية تقوم الذات بإدارة الصراع الخارجي .. لأنها تعرف جيدا أنها تمارس دورا خسيسا ومشينا أخلاقيا وثقافيا ...

فهذه الخدمة تبررها الذات دائما بأنها تضحية في سبيل الوطن وليس تلبية لأنانية ضيقة ونرجسية مفرطة في إنتاج قيم الدهماء والغوغاء والرعاع..

باختصار، فهذه السلوكات هي التعبير الحقيقي والواقعي للجزء العنفي في الثقافة .. لكن هل تنتسب مفاهيم هذه الثقافة الشريرة إلى القيم الحضارية ؟

فهي تتواجد في قلبها، وتبقى جزءا من ثقافة المجتمع .. تعبر عن ثقافة النفاق المتحضر والمجاملة .. كأسلوب لإظهار الاهتمام بالآخر ...

أتساءل طبعا لأن أولئك البشر الذين تتجسد في سلوكاتهم ثقافة الشر .. مصابون ببلاهة منقطعة النظير .. فلو كانوا أذكياء لكان الصراع معهم منتج بالتأكيد رغم ألمه فهم بأساليبهم الخبيثة يتعمدون الظهور ببلادة .. لأنهم فقدوا القدرة على السؤال .. و باتوا يتدربون على صوت الببغاء حتى لا يشعر الآخرون في السرب بأنهم كانوا يوما غرباء ...

إنها ثقافة القطيع التي لم تكن كذلك بالأمس فغالبا لا تجد أمامك في هذا الحائط الأزرق إلا هوامش إنشائية وثرثرة أشخاص محفوفة بذات متضخمة .. لا رؤى لديهم لكي يقولوها ... ولا لغة تساعدهم على الوقوف ... في عالم ثقافته الإشاعة والوشاية ... إنها الثقافة الفارغة .. أو المدنية الفارغة على حد تعبير صاحب " تدبير المتوحد " لا بن باجة ...

وختاما وفي نفس السياق يمكن أن أشير هنا إلى حكاية مونولوغ الشر لأوكوسطو مونطيروسو ..

" في يوم من الأيام وقف الشر قبالة الخير وجها لوجه وأراد أن يلتهمه لينهي النزاع المضحك بينهما مرة وإلى الأبد، ولكن عندما رأى الشر الخير صغيرا ضئيل الحجم أمامه فكر .." من المؤكد أنه فخ، فإذا التهمت الخير الذي يبدو هكذا ضعيفا، سيقول الناس أنني قمت بعمل شرير وعندها سيظل العار يلاحقني حتى أغدو صغيرا ضئيلا جداً وتتاح الفرصة للخير في التهامي، مع فارق بسيط هو أن الناس ستفكر أنه قام بعمل محق وجيد، ذلك أنه من العسير جدا أن تبدل قناعات الناس من أن ما يقوم به الشر شرير، وأن ما يقوم به الخير جيد "

وهكذا نفذ الخير بجلده مرة أخرى.«