قضايا

عقوبة الاعدام بين الواقع والتطبيق والتشريع

سليمة فرجي*

المطالبة بالإلغاء الكلي للعقوبة العظمى يتناقض مع التعاقد الاجتماعي ومبدأ إنصاف المجني عليهم

لازال الجدل قائما حول عقوبة الإعدام تشريعا وتطبيقا للنص القانوني وتنفيذا ، علما ان السلطة القضائية هي المصدرة للأحكام طبقا للقانون الذي صادقت عليه السلطة التشريعية ، وبالتالي فإن الجدل المثار  يخاطب بالأساس المشرع والسياسة العقابية ، ولا يخاطب القضاة الذين لا يلزمون سوى بالتطبيق العادل للقانون طبقا للفصل 110 من الدستور .

الجدل الذي يتحول الى صراع كلما اقترفت جريمة بشعة  ومروعة يهتز لها  الرأي العام ،يجعل اصواتا ترتفع للمطالبة بتطبيق عقوبة الاعدام على  مرتكبي الجرائم الوحشية ، ومطالب اخرى تنادي بإلغائها اعتبارا من كون الحق في الحياة منصوص عليه في الفصل 20 من الدستور،  وانه أول حق من حقوق الانسان

واعتبارا لانقسام وجهات النظر بين طرف له مؤيدات الإلغاء ، وطرف يتحجج ببراهين الإبقاء ، وبروز عدة جمعيات ومنظمات حقوقية وشبكات برلمانية تنادي من اجل الحق في الحياة وتندد بالابقاء على عقوبة قاسية تجعل الدولة تشرعن القتل باسم القانون وتجنح للثأر والانتقام من جهة ، وفوران وهبّة مختلف شرائح المجتمع  للمطالبة ليس فقط بالابقاء تشريعيا وتطبيق النص القانوني بل تنفيذ العقوبة كلما تعلق الامر بارتكاب الجناة لجرائم وحشية تهتز لها المشاعر الانسانية ويرفضها كل كائن بشري سوي يؤمن  بالرحمة وبتقديس حياة الانسان من جهة اخرى

المطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام يستندون الى كون الله سبحانه وتعالى هو من يَهَب الحياة وليس لغيره ان يسلبها ، وان الحق في الحياة وفقا لهذا الرأي هو حق مقدس كرسته الشرائع السماوية وأيدته المواثيق الدولية وبالتالي لا يجوز المساس به ، ولا يمكن فرض قيود تشريعية او قانونية عليه كباقي الحقوق الأخرى كالحق في التعبير والرأي ، اذ ان الاول اي الحق في الحياة مطلق ،بينما باقي الحقوق هي حقوق نسبية تختلف من دولة الى اخرى بالنظر الى سقف الحريات في كل دولة من دول العالم .

كما ان الدين الإسلامي  الحنيف قد درأ الحدود بالشبهات وترك أمر العفو بيد ولي الدم الذي له حق العفو ،كماله حق إنزال العقوبة , لذلك يرون  ان الاصل  هو العفو والاستثناء هو إنزال القصاص

من بين ما يرتكز عليه المؤيدون لالغاء عقوبة الاعدام ايضا  انه في المجتمعات او الدول التي تنعدم فيها العدالة الاجتماعية ولا تتحقق فيها ضمانات المحاكمة العادلة ،ويحتمل فيها الخطأ القضائي قد تطبق هذه العقوبة على الابرياء ولا رجعة  فيها بعد تطبيقها،  كما انها عقوبة مهينة تمثل منتهى القسوة واللاإنسانية وانتهاكا لحق الانسان في الحياة و الحق  في عدم التعرض للتعذيب والمعاملة القاسية ، وان تطبيقها لم يحقق الردع المنشود ولم يقلص عدد  الجرائم المرتكبة

وما بين الواقع والتشريع , يرى المؤيدون لإلغاء عقوبة الاعدام ان العديد من البلدان العربية لا تباشر مسطرة تنفيذ الاحكام الصادرة بالاعدام ، مثلا في المغرب لم يتم تنفيذ سوى حكمين على مدى خمسة وعشرين سنة ما بين 1982 وآخر تنفيذ سنة 1993 ، كما انخفض مجموع الاحكام الصادرة بالاعدام لكون نظام العفو قد يحول العقوبة من الاعدام الى المؤبد او المحدد ، نفس الامر في تونس التي لم تشهد اي تنفيذ منذ 1992 ، والجزائر منذ 1993 , ولبنان منذ 2004 , والاردن منذ 2006 الشيئ الذي نستنتج معه ان عقوبة الاعدام لا وجود لها في الواقع العملي رغم التنصيص عليها في مختلف التشريعات الدولية الشيء  الذي اعتبر معه إلغاء تدريجي لعقوبة الاعدام

وفي هذا الصدد قال احد المؤيدين لإلغاء العقوبة العظمى peine capitale انه حين نعتقد اننا انتصرنا على المجرم بإعدامه ، يكون هو من انتصر علينا بنجاحه في تحويلنا إلى قتلة نشبهه .

اما المؤيدون للابقاء على العقوبة وبغض النظر عن كونها لا زالت موجودة في العديد من الديموقراطيات العريقة ، فانهم يستندون على كون الحق في الحياة هو حق لا يتمتع به الجاني وحده بقدر ما هو حق يتمتع به المجني عليه الذي كان محل اعتداء من طرف الجاني الذي كان سباقا الى ازهاق روح بريء بدون وجه حق ، لذلك  فان الفصل 20 من الدستور الذي يخول للقانون الجنائي حماية هذا الحق نستنتج منه بخصوص  مفهوم الحماية  ان نية المشرع الدستوري قد انصرفت الى تطبيق القانون في حق من اعتدى على الحق في الحياة وازهق ارواح الابرياء بخساسة ، وليس حماية الجاني الذي سلب غيره الحق في الحياة

واذا كان من الثابت ان للفرد حقوق وان الجاني يطالب بالمحاكمة العادلة فان للمجتمع حقوق على رأسها الحق في الحياة المحمي بقوة القانون ، خصوصا وان مرتكبي الجرائم البشعة كالاغتصاب المتبوع بالقتل ودفن الجثة او التمثيل بها من طرف بعض السفاحين المجردين من اية رحمة او شفقة تجاه الاطفال والضعاف تترك اثار جرمهم المقترف بكل برودة دم ، جروح مفتوحة لا تندمل وتجعل المجتمع يثور للمطالبة بالانصاف وبالتالي الابقاء على  عقوبة الاعدام التي وحدها قد تشفي غليل الضحايا وتحقق بعض الانصاف ، لان الجاني الذي استرخص حياة الاغيار وعرض المجني عليه وعرضه لابشع ضروب المعاملة القاسية باغتصابه وتعذيبه و احتجازه وقتله وتقطيع  او التمثيل بجثته يكون قد تجرد من جميع القيم الانسانية ، وان الدعوة الى حمايته باسم الدفاع عن حقوق الانسان لتعتبر منقصة وتناقضا صارخا مع مبدأ كوني هو قداسة الروح البشرية والحق في الحياة التي اعتدى عليها  الجاني عن بينة واختيار،

وان تطبيق عقوبة الاعدام في حقه ما هي الا تكريس لمبدأ العدالة والانصاف والانسجام مع النظام والتعاقد الاجتماعي الذي يملي على افراد الجماعة  بل يلزمها بالمحافظة على  جميع الافراد والضرب على ايدي السفاحين والمعتدين ومرتكبي الجرائم البشعة المروعة بعد محاكمتهم محاكمة عادلة تتوفر فيها جميع الضمانات ولا محل فيها  للاخطاء القضائية .

نستنتج من العرض اعلاه ان المشرع يهدف في بعض الحالات تحقيق اكبر قدر من الحماية  للمجني عليه عن طريق تشديد العقوبة ، لكون هذا التشديد يلعب دورا ايجابيا في الوقاية من الجريمة وهو الدور الوقائي للقانون الجنائي ، اذ يعلم الجاني مسبقا بالعقوبة المشددة ان هو سولت له نفسه الاستهتار بحياة الاشخاص وتعريضهم لممارسات بشعة ، علما ان المطالبة بالالغاء الكلي لا يتلاءم مع النظام الاجتماعي لانه يتجاوز مفهوم الحماية التي يقررها الدستور والقانون للمحافظة على حياة جميع الافراد

ولعل المغرب انسجاما مع مبدأ حماية  واحترام الحياة الاجتماعية وصيانة حقوق الانسان وملاءمة تشريعاته الوطنية مع المواثيق الدولية  قلص من عدد حالات الاعدام في قانون العدل العسكري الذي صادق عليه البرلمان خلال الولاية السابقة من 16 الى 5 جرائم خطيرة اقتضت الضرورة  الإبقاء عليها ، كما ان مشروع القانون الجنائي المعروض على البرلمان منذ الولاية البرلمانية السابقة قلص عدد الجرائم المعاقب عليها بعقوبة الاعدام من 31 إلى 11 جريمة منها جرائم الابادة الجماعية وجرائم الحرب ، والجرائم المرتكبة ضد الانسانية، وبذلك نحا الى قصر تطبيق عقوبة الاعدام على اشد الجرائم خطورة كالقتل العمد مع سبق الاصرار والترصد واستعمال وسائل التعذيب وارتكاب اعمال وحشية لتنفيذ جنايات الاغتصاب و هتك عرض القاصرين والاختطاف والاحتجاز الى غير ذلك من الجرائم البشعة التي يشيب لها الرضع و تقشعر لها الابدان ، لذلك اذا كان من الثابت انه تمت اعادة النظر في قائمة الجرائم المعاقب عليها بالاعدام ، وان تقديم التعديلات من طرف النواب سيقلص من عدد الجرائم المعاقب عليها بالاعدام ، فان المطالبة بالالغاء الكلي لها لا يتناسب مع المصلحة العليا والتعاقد الاجتماعي بل يعد انتهاكا لمفهوم حقوق الانسان وحقوق الضحايا المجني عليهم المشمولين بحماية الدستور والقانون .

* برلمانية ( سابقا)