رأي

عبد الإله الجوهري: مهرجان الجونة السينمائي الذي أحب..

كنت محظوظا، كالعادة، وأنا أتوصل بدعوة رسمية، من مهرجان الجونة السينمائي، في وقت جد مبكر، أي بحوالي شهرين قبل انطلاق فعالياته، مع التأكيد على ضرورة حضوري، لما يجمعني بمصر أولا، ومنظمي المهرجان ثانيا، من آيات الحب والتقدير.

كم كنت سعيدا بهذه الدعوة، والاهتمام الخاص الذي خصني به من يقف وراء هذه التظاهرة السينمائية الكبيرة، لكن، وللأسف، غيوما طرأت في سماء الفرح والإعداد للسفر، بعد الإعلان عن تفاصيل الدورة، وتسطير تكريم الممثل الفرنسي جيرار ديبارديو في حفل الافتتاح، حيث حضر سجال مستفيض، حول مدى محاباة هذا النجم الإشكالي للصهيونية، ومساهمته في تكريس وجود الكيان الإسرائيلي. وقد رافق السجال، دعوات للتراجع عن تكريمه، والدعوة لمقاطعة الدورة في حال الإصرار على التكريم، وهي دعوات صدرت عن بعض الفعاليات الجمعوية، والأسماء والهيئات السينمائية المصرية.

 بالنظر لموقفي الثابت من القضية الفلسطينية، كقضية عادلة، وجب على كل ذي ضمير حي ضرورة مساندتها ونصرتها وكشف خداع الصهيونية، طرحت سؤال على نفسي، ما العمل؟، وهو سؤال وجدت له، بعد تفكير ونقاش مع بعض الأصدقاء، جوابا ينسجم وقناعاتي، جواب يتلخص في عدم التهافت واتخاذ القرارات بشكل اعتباطي مجاني، وذلك من منطلق أن معاداتي هي معاداة بالأساس لدويلة إسرائيل، وليس عداء مع كل من يتعاطف معها عبر العالم، لأننا لو دخلنا في متاهات العداء مع كل من هو متأثر بالدعايات الصهيونية، أو منجر لدائرتها الظالمة، سنجد أنفسنا في حرب مع نصف العالم، خاسرين معركة الإقناع بعدالة قضية، وبالتالي علينا أن نكون أكثر عقلانية وبرغماتية في التعامل مع الآخرين، الغير إسرائيليين، علينا أن نمد جسور التواصل معهم،  وفتح النقاش المؤسس على الحوار، ومحاولة اظهار الحقائق لهم، بتنبيههم ومحاولة اقناعهم وجرهم للصف العربي العادل. علينا أن نمارس الفن بالفن، أي أن نؤثر فيهم من خلال قوة ناعمة قادرة على الدفع بهم نحو تغيير مواقفهم الخاطئة، لا جعلهم أكثر عداءا لنا، بمقاطعتهم وجعلهم يحسون أنهم أعداء لنا بشكل مسبق وأصدقاء لاسرائيل.

وكان الذي كان، القرار بالسفر لحضور فعاليات المهرجان، رغم المخاطر المجاورة لفعل التحرك خارج أرض الوطن، بسبب جائحة كورونا، أي خطر العدوى، وخطر أ ن تغلق الحدود في أي لحظة، وأجد عند ذاك، نفسي محجوزا في مطار من مطارات العبور، ذهابا أو عودة، نحو مصر. لكن نداء السفر، بسبب حب مصر، وعشق السينما، واشتياق الكثير من الأصدقاء، فعلوا فعلتهم الحاسمة في دفعي لركوب المغامرة، والمجيء لأرض الكنانة.

وصلت لمطار الدار البيضاء، صباح يوم 21 أكتوبر 2020، وأنا كلي حماس، لكوني سأصل للقاهرة بيومين قبل انطلاق المهرجان، الشيء الذي سيسمح لي بربط الصلة مرة أخرى بهذه المدينة التاريخية الجميلة، وملاقاة بعض الأصدقاء في مقدمتهم المخرج أحمد صالح فوزي، الذي لم يتوقف عن الاتصال بي أياما قبل تاريخ الرحلة للتأكد من مجيئي، لكن صدمتي كانت كبيرة لكوني لم أكن أعلم بضرورة التوفر على شهادة مغادرة التراب الوطني، التي قررتها الجهات المغربية الرسمية، بسبب الجائحة، على كل مسافر مغربي غير مقيم في بلد أجنبي. فاضطررت العودة لمنزلي، والحزن يملأ كياني، مقررا الركون للقدر، والبقاء في بيتي، لكن الأصدقاء في الجونة كانت لهم الكلمة العليا، وذلك بالإصرار على حضوري، وحجز تذكرة أخرى لي، لكن هذه المرة عبر تركيا، أي لم تكن مباشرة. ورغم وعثاء السفر، بسبب طول الرحلة، وتشدد الإجراءات الأمنية والصحية في المطارات حد الضجر، ووصولي في اليوم الثاني للمهرجان، أي بعد فوات حفل الافتتاح، الذي كنت أمل حضوره، والمساهمة من موقعي في نجاحه. فقد كنت سعيدا ونسيم البحر الأحمر يهب خفيفا، وجزء من الأرض الصحراوية المصرية التي تحولت، بفضل إرادة وعزيمة الأخوين سويرس، إلى جنة غناء تستقبلني بالأحضان. إلى جانب أنني نجحت في تحدي زمن الفيروس اللعين، والحضور لمتابعة برنامج سينمائي غني كما هو مسطر ومرفوق في محفظة المهرجان من خلال كتيب غني بالمعلومات والبرنامج العام للدورة.

قبل سنة أو أكثر كنت قد كتبت أن مهرجان الجونة يتميز عن غيره من المهرجانات ببرنامجه القوي، خاصة من ناحية الأفلام المبرمجة، وهو ما يتأكد خلال هذه الدورة، الدورة الرابعة، أفلام تقطع الأنفاس، وتجعلك تحتار أي منها ستشاهد، خاصة وأن زخم البرمجة لا يتيح لك الفرصة لحضور أو مشاهدة كل ما هو معروض، لقاءات هامة، وأفلام من القارات الخمس، جلها شاركت في أشهر المهرجانات الدولية الكبيرة ككان والبندقية وبرلين وسان سيباستيان، أفلام سبقتها سمعتها الفنية والتقنية، وأفلام أخرى تقدم في عروضها الأولى، بعضها كاشف عن أسماء سينمائية جديدة تعد بالشيء الكثير في المستقبل القريب.

أفلام وأفلام، حاولت مشاهدة أكثرها، من خلال معانقة ثلاث أفلام يوميا، مشاهدات أوقعتني رغم أنفي في فخ النشوة، وزرعت في طريقي عقبة الاختيار، لقد أصبت بالحيرة في تناولها ومعالجتها بمقالات وتدوينات ، لأنها جميعها تستحق الكتابة عنها، والتعريف بأصحابها، ومع ذلك كان ولابد أن اختار أولا جهة السينما العربية، السينما التي ظهرت، على غرار الدورات الماضية، بمستوى جد محترم، من خلال منجز سينمائي يؤكد على أن السينمائي العربي قد أصبح يملك مفاتيح الإبداع، ولم يعد بحاجة للتأكيد على مصداقية ما يصنع، ظهر ذلك بجلاء في الفيلم التونسي "الرجل الذي باع ظهره" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، والفيلم الفلسطيني "200 متر" للمخرج   والفيلم المغربي "ميكا" للمخرج اسماعيل فروخي. أفلام ثلاث مشاركة في المسابقة الرسمية للفيلم الروائي الطويل، إلى جانب أفلام عربية روائية قصيرة، وأفلام وثائقية طويلة. وثانيا أن أنتقي دررا سينمائية عالمية، خاصة منها أفلام قادمة من البلدان النامية، بلدان كالبراغواي وتركيا وأذريبجان.. لما تربطني بهذه السينمات من وشائج روحية وحساسية فنية تأصلت في دواخلي منذ سنوات الطفولة والمشاهدة داخل حركة الأندية السينمائية.

الأفلام العربية المشاركة خلال هذه الدورة، في مجملها، حصلت من قبل على جوائز "منطلق الجونة السينمائي"، وهو عبارة عن مختبر لتطوير المشاريع والإنتاج المشترك، الذي يوفر الفرص للمخرجين والمنتجين العرب، لإيجاد الدعم الفني والمالي اللازم. منطلق يستقبل هذه السنة مشاريع جديدة واعدة، من بينها المشروعين السينمائيين المغربيين: فيلم “كذب أبيض” للمخرجة أسماء المدير، ضمن المشاريع الوثائقية، وفيلم “الحياة تناسبني جيدا” للمخرج الهادي أولاد محند، ضمن مشاريع فئة الأفلام الروائية الطويلة. وهي فرصة تعطى لهذه الأفلام، بكثير من السخاء، لكي تخرج للوجود، وتكون حاضرة خلال الدورات القادمة.

خلاصة الكلام، أن مهرجان الجونة، وعلى غرار بعض المهرجانات التي أحس فيها بالحب والحميمية والمصداقية ( المصداقية المفقودة في كثير من المهرجانات المصنوعة على عجل، أو المهرجانات التي يهتم فيها بكل شيء، إلا الفرجة السينمائية الراقية)، يمكن اعتباره اليوم محطة لا محيد عن حضورها، لكل سينمائي شغوف، يريد أن يستمتع بالسينما في أجمل صورها، وأبهى حللها، سينما معروضة داخل قاعات مريحة أنيقة تحترم شروط العرض، وتحترم معاني المشاهدة التقنية الراقية، إلى جانب اللقاءات الهامة مع صناع الأفلام القادمين من مختلف بقاع العالم، والمنتجين القادرين على انتشال المشاريع من مشاكلها التمويلية إلى بر التحقق والأمان. وقبل ذلك يجعلك (المهرجان) تحب مصر أكثر مما كنت تحبها.