تحليل

درس التطبيع... ملك شجاع وأحزاب جبانة

عبد الله الفرياضي

قراءة عابرة للبيانات التي أصدرتها مختلف الأحزاب السياسية المغربية، على هامش البلاغ الصادر عن الديوان الملكي بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل وما نجم عنه من اعتراف أمريكي بمغربية الصحراء، تكفي لتشكيل صورة واضحة عن طبيعة هذه الأحزاب وعن حجم الرهانات التاريخية التي يمكن للمؤسسة الملكية أن تعقدها عليها مستقبلا.
فمن بيانات تم تسويدها من محبرة واحدة يمكن وصفها، دون مواربة، بمحبرة الخذلان، مرورا بيانات يلتحف خطابها بالاحتشام والتردد والجبن حتى انطبق عليها المثل المغربي القائل "الديب حرام مرقتو حلال" وصولا إلى بيانات تخلصت من بعض أغلال العاطفة السياسية وانتصرت للقرار الملكي باحتشام.  وحدها الحركة الأمازيغية، كتوجه سياسي - إديولوجي، من انتصرت لعقلانية الملك وناصرت موقفه جنبا إلى جنب مع عموم المواطنين.

التطبيع الملكي: انتصار العقلانية السياسية

نعلم جميعا، علم اليقين، أن العلاقات الدولية في الزمن المعاصر إنما تحتكم إلى قانون المصالح المتبادلة. وعليه فإن الاعتقاد بأن القرار الأمريكي القاضي بالاعتراف بمغربية الصحراء قرار مجاني، لم تنتظر منه أمريكا مقابلا ولا عوضا، لا يعدو أن يكون اعتقادا أملته السذاجة السياسية. نعم، لقد كان في الأمر صفقة، لكنها لم تكن صفقة ضيزى. بل كانت صفقة تم تصريفها وفق قاعدة "رابح - رابح" مع فارق واضح في الربح لصالح المغرب. فأمريكا ربحت، وهي رابحة بهذه الصفقة وبدونها، وإسرائيل أيضا ربحت وهي رابحة أيضا بقوة الواقع بهذه الصفقة وبدونها، ليكون المغرب هو الرابح الأكبر.

يتفق الجميع على أن المنجز التاريخي الذي كشف عنه بلاغ الديوان الملكي يتجلى في قرار ترسيم العلاقات الدبلوماسية وتطبيعها مع إسرائيل، فيما اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء ليس في الواقع سوى النتيجة المنطقية المترتبة عن ذلك القرار. فأمريكا وإسرائيل ستعملان مستقبلا على توظيف قوتهما في صنع القرار العالمي لصالح عدالة الموقف المغربي بشأن سيادته على صحرائه بما يخدم مصالح الجانبين، ولعل تقاطر المواقف الدولية الداعمة للمغرب خلال الآونة الأخيرة خير دليل.
لقد شكلت عملية التطبيع إذن علامة فارقة في تاريخ الدبلوماسية المغربية، إذ قطعت مع موقف الانتظارية السلبي الذي ظل يعرقل الحلحلة النهائية للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، كما قطعت مع سياسة ارتهان القضايا العليا للوطن بقضايا الأغيار، فكانت النتيجة أن انتصر الملك للعقلانية السياسية التي مكنت بلادنا من تشييع وهم الانفصال إلى مثواه الأخير مع حشر أعداء الوحدة الترابية للمغرب في زاوية ضيقة سرعان ما سيحكم عليهم القعود فيها بالانهزام التام.
التطور الذي حصل في بوصلة العلاقات الخارجية للمغرب لم يكن مفاجئا كما تصوره البعض، بل كان مهيأ له منذ مدة بشهادة بلاغ الديوان الملكي نفسه. بل إن وزير الخارجية، ناصر بوريطة، قد ألمح إليه حين خاطب أعضاء البرلمان خلال اجتماع سابق للجنة الخارجية والحدود والدفاع الوطني والمناطق المغربية المحتلة في مجلس المستشارين قائلا: "لا ينبغي أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين"، ثم أردف معلقا على ما بات يعرف بصفقة القرن "هناك مبادرة يجب أن نقول إنها إيجابية ولأول مرة تتحدث عن حل الدولتين". لكن هل توازت شجاعة الملك التاريخية حين اتخذ هذا القرار مع شجاعة مماثلة من طرف القوى الحزبية المؤثثة للمشهد السياسي بالمغرب؟ هل انتصرت الأحزاب السياسية للقرار الملكي ودافعت عنه؟

مواقف الخذلان... تنظيمات الوطنية الفلسطينية


إذا كان القرار الملكي الأخير قد انتصر للوطن ولا شيء غير الوطن، فإن بعض التنظيمات السياسية ببلادنا للأسف قد فضلت التغريد على إيقاعات عاطفية متجاوزة وشاذة ولو على حساب المصالح العليا للوطن. بل الأكثر من ذلك أنها أصرت بكل وقاحة وصفاقة على تخوين الملك والنظام الملكي وحاولت تأليب المواطنين ضده، لا لشيء إلا من أجل الانتصار لقضايا خارجية جعلوها، بفعل العمى الإيديولوجي الذي أصابهم، أهم من قضايا وطنهم.

فحزب النهج الميكروسكوبي الذي ظل على الدوام يغرد خارج الإجماع الوطني حول سيادة المغرب على كامل أراضيه، كما ظل حريصا على دعم الانفصاليين وأطروحاتهم التقسيمية، يخرج ببيان يصف فيه النظام الملكي بالخائن والعميل تماما كما يصفه الانفصاليون. بل الأكثر من ذلك أنه توجه إلى جماهير المواطنين، الذين نبذوه، ليتسول منهم الثورة والعصيان ضد هذا النظام.

وغير بعيد عن هذا التنظيم المجهري، انبرت فدرالية اليسار التي تتشكل من أحزاب الطليعة والمؤتمر الاتحادي والاشتراكي الموحد ذات الجماهيرية الباهتة، لتدبيج بيان مماثل.

موقف تقاسمته معهم جماعة العدل والإحسان المتطرفة والمحظورة، التي استعطفت بدورها المواطنين المغاربة للخروج ضد الدولة وإعلان التمرد والعصيان في وجهها، لا لشيء إلا لأنه انتصر لقضايا وطنه وخدم بلاده بروح وطنية.

 

أحزاب "الديب حلال .. مرقتو حرام"


مواقف بعض الأحزاب التي يفترض فيها الاصطفاف وراء القرار الحكيم للملك، سارت للأسف بدورها في اتجاه يخدم أجندات غير مفهومة. إذ اتفقت على الإشادة بالمعلول دون العلة الفاعلة، والتنويه بالنتيجة دون السبب. وهو ما ينطبق عليه المثل المغربي الدارج "الديب حرام ومرقتو".
حزب الاستقلال من بين هذه الأحزاب، فبيان لجنته التنفيذية يخلو من أية إشارة إلى القرار الملكي بترسيم العلاقات بين البلدين فالأحرى الدفاع عنه، بل الأكثر من ذلك أن حفدة علال الفاسي قد استبطنوا في بيانهم موقفا مناهضا للقرار الملكي من خلال اجترار خطابه المستهلك عن القضية الفلسطينية وشن هجوم لفظي على إسرائيل لا تقتضيه المناسبة.
أما موقف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي عبر عنه مكتبه السياسي فإنه، وإن تحاشى الهجوم اللفظي على إسرائيل ونوه بمساعي المملكة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، إلا أنه لم يستطع ذكر دولة إسرائيل بالإسم فما بالك الإشادة بقرار ترسيم العلاقات معها. بل اكتفى فقط بالتهليل لاعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء.
فيما حزب الإتحاد الدستوري، ورغم مبالغته الطفولية في الاحتفاء بالاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء حد التوصية بجعل هذه المناسبة عيدا وطنيا، إلا أنه لم يقدر على ذكر الحدث الفعلي المتمثل في ترسيم العلاقات بين المغرب وإسرائيل. بل اكتفى بالتنويه بموقف المغرب الداعم للقضية الفلسطينية.

التقية السياسية ... الخذلان في لبوس الوطنية


موقف حزب العدالة والتنمية الذي يقود الائتلاف الحكومي بالمغرب لولايتين متتاليتين تمت صياغته بأسلوب يطرح أكثر من علامة استفهام. فرغم إشادة الأمانة العامة للحزب، في بيانها المدبج على هامش بلاغ الديوان الملكي، بالاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء ومحاولتها إظهار الحزب بمظهر المساند لما أسمته "القيادة المتبصرة والحكيمة"، إلا أنها استنكفت عن تأييد القرار الملكي القاضي بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل إلى وضعها الطبيعي. بل الأكثر من ذلك أنها أشارت بوضوح إلى مناهضتها للقرار التاريخي بشن هجوم لفظي على إسرائيل التي وصفتها بالاحتلال الصهيوني، وهو ما يتعارض مع الشرط التاريخي لصدور هذا البلاغ.

موقف سرعان ما ستنكشف حقيقته المظلمة في بيانات تنظيماته الموازية، لا سيما بيانات شبيبته وذراعه الدعوي حركة التوحيد والإصلاح وجمعياته التي أجمعت على مناهضة القرار والاصطفاف في خندق التيار المعلي للقضية الفلسطينية على المصالح الاستراتيجية الوطنية. بل انزلقت بدورها إلى مستنقع "إعلان الحرب" عبر محاولة بئيسة لتجييش الشعب ضد خيار التطبيع.

 

مواقف مشرفة: بين مداد البيانات ومعارك الميدان

أحزاب الأصالة والمعاصرة والحركة الشعبية والتجمع الوطني للأحرار والتقدم والاشتراكية تمكنت إلى حد بعيد من الجهر بتأييدها لتطبيع العلاقات الديبلوماسية بين المغرب وإسرائيل، بل استطاعت أيضا الإقرار بمغربية المواطنين الإسرائيليين ذوي الأصول المغربية ونوها بالرعاية التي يخصها الملك لرعاياه من اليهود المغاربة بإسرائيل. غير أن هذه الأحزاب لم تستطع ترجمة منطوق بياناتها على أرض الواقع من خلال تعبئة قياداتها ومناضليها للدفاع عن القرار، وتوضيح شرعيته ومشروعيته وأيضا نتائجه الإيجابية على مستقبل بلادنا.

وحدهم مناضلو ونشطاء الحركة الأمازيغية، كتيار سياسي - إيديولوجي هم من تركوا اختلافاتهم الطبيعية مع النظام بشأن التقدير السياسي لكثير من الملفات، وانبروا فرادى وجماعات، زَرافات ووُحدانا للدفاع عن القرار اعتبارا لانتصاره أولا للعقلانية السياسية التي تعلي قيم التعايش والسلام وتنبذ قيم العنصرية والاحتراب وثانيا لانتصاره لقضايا الوطن وتقديمها على ما سواها من القضايا الإنسانية الأخرى. لكن الغريب في الأمر أن نشطاء الحركة الامازيغية لم يجدوا أنفسهم وحيدين في معترك الدفاع عن هذه القيم، بل أبى الشعب المغربي إلا أن يتصدى

خلاصة

في ختام قراءتنا وتحليلنا لمواقف مختلف الأحزاب والتنظيمات السياسية بالمغرب وطبيعة تفاعلها مع القرار الملكي التاريخي بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل مع ما يترتب عن هذا القرار من نتائج، يمكننا الخلوص إلى جملة من الاستنتاجات أبرزها أن:

- المؤسسة الملكية في المغرب أكثر حداثة ممن يتشدقون بتمثل قيم الحداثة
- المؤسسة الملكية تملك شجاعة سياسية تنعدم لدى جميع التنظيمات السياسية المغربية

- المؤسسة الملكية تملك مشروعية وشرعية شعبية لا تملكها أية قوة سياسية أخرى

- المؤسسة الملكية تحظى بالدعم الشعبي أكثر فأكثر كلما اختارت نهج العقلانية السياسية

- مختلف الأحزاب والتنظيمات السياسية بالمغرب تحتاج إلى إعادة تكوين حول مفهوم الوطنية

- مختلف الأحزاب السياسية غير جديرة بالمراهنة عليها في القرارات التاريخية الحاسمة