فن وإعلام

في رواية "عودة المرحوم".. حسن بحراوي يحتفي بالمحلية ويفتح سفر التكوين

أسامـة الصغـير*

المرتكز الأول: رهان المحلية والثقافة الشعبية

يبدو رهان الكتابة واضحا لدى الكاتب حسن بحراوي، فهو يُشرع المجال احتفاءً بالمحلية والثقافة الشعبية، من خلال استحضار عناصرها ومكوناتها الثرة. ندرج لذلك مثالا في قول السارد باللسان الدراج «يشبع الميت موتا» «لا حنين ولا رحيم» إضافة إلى ذلك، فهو يسعى إلى تفخيخ وتفجير بنية اللغة المعيارية، مثال قوله: «الإنسان هو الذي يحافظ على عاداته الجميلة وحتى القبيحة» ثم قوله أيضا: «وإذن هو لم يقلع عن هذه العادة».

من جهة ثانية، فهو يُعمّد شخصيات الرواية بأسماء شعبية تحمل كثافة إيحائية: حمّاد، الزيادي، سيدي أحمد البهلول، وهو زجال من التراث المغربي القديم، عاش منذ ثلاثمئة سنة. وعلى مستوى الفضاء والحيّز، تحضر البادية المغربية وطقوس الأسواق والفرجة، لاسيما أحواز البيضاء والسطات ودمنات، التي لا يعرف عنها الرفيق لينين شيئا، كما يعلق السارد ساخرا أثناء تبئيره محاولات طلبة اليسار تعبئة فلاحي القرى، في المواجهة ضد السلطات الحاكمة، زمن ما صار يسمى في سرديات اليسار المغربي «سنوات الجمر والرصاص».

إننا نشهد في منعطفات الرواية مساءلة قوية لقدرة الثقافة العالمة، فهنا يقول السارد: «هذا هو الجنون بعينه الذي لا سبيل إلى تفسيره باختلاف القارات وتعدد المعتقدات.. ولا حتى بالسيميائيات التأويلية ذاتها». مقابل ذلك، ومن خلال حمّاد الذي ينقل الساردُ مواقفه ويستعرضُها ذاهلا هو نفسه، فإننا نشهد إنصافا لمكونات الآداب الموازية، حيث إن الزجال التراثي أحمد البهلول، سبق نازك الملائكة إلى كتابة شعر التفعيلة، بل إنه صاحب ملحمة صغيرة، «العُلوة» وتعني حيزا مرتفعا مثل الربوة، يعتبرها حمّاد الأولى من نوعها في الشعر العربي، بل إن حمّاد يرى بونا كبيرا بين إلقاء درويش وإلقاء الزجال البهلول، وعندما يُحاجِجُه السارد الذي يقوم مقام القارئ الضمني، فإن حمّاد الذي يقوم مقام الكاتب الضمني، يرد بالقول: «إن صاحب الراكوبة شاعر كوني مثل بابلو نيرودا وإزرا باوند، همه الأول والوحيد هو تمجيد الإنسانية والانتصار لقيم العدالة والسلام».

درْءًا لشُبهة الاستهتار بلغة الوجدان التاريخي الفصيح للأمة، أو شبهة الاستخفاف بها، فإن السارد يومض بين حين وآخر ومضات أكاديمية، عن ومن أمهات كتب ومصادر التراث الثقافي العربي والإنساني، تنمّ عن معرفة لغوية وثقافية عميقة، لكأنها دعوة إلى التجاوز والتجريب في اللغة والأدب، بعد اجتياز مرحلة الهضم والاستيعاب المعرفي أولا. وللتذكير لا للتعريف، نقول إن الكاتب حسن بحراوي هو أستاذ الأدب العربي في جامعة محمد الخامس، وأحد مِسلاّت المشهد النقدي المغربي المعاصر. إن السارد يتوجه للقارئ المفرد وأحيانا الجماعي بلا ستار، يُقحمه في الحكاية، وهذا الأسلوب الواقع في صلب الكلام/ المشافهة، يُشكل غاية فنية وأداة في الآن نفسه، فهو يجرُّنا إلى أشكال الفرجة الشعبية كما يُجيدها الحكواتي. ومن قفشات هذا الاستعمال السردي البيّن قوله: «يمكن القول كسارد محترم» ويقول السارد مُعلِّقا: «القضية نفسها قريبة من السيريالية» تماما كما أن الرواية نفسها في المبنى والمعنى تحفل بكتابة تتجاوز نسق التأليف المألوف، وتجنح نحو السيريالية في واقع يرْشح بالغرابة أكثر مما يجول في خلد الخيال.

المرتكـز الثاني: سيرة التكوين الثقافي والسياسي

ينتمي الكاتب والباحث حسن بحراوي إلى ما قد يُعتبر جيل حلقة الوصل من حملة ألوية الثقافة والأدب في المشهد المغربي الحديث والمعاصر، جيل تفاعل مع رواد ما بعد الاستقلال، واشتد عُوده منتصف الثمانينيات والتسعينيات، والآن هنا يخوض رهاناته الثقافية، إن بقي ثمة رهان في مسارات التيه. إذ ماذا لو مات في داخل الكاتب شخصُه، الشاب الفتي وآثر السكن في مقبرة الصمت السردي؟ ألا يمكن للكاتب أن يستعير قناع شخصية أخرى، وينفخ فيها الحياة السردية ويبعثها خلقا جديدا؟ وما الذي يمنع الكاتب من ذلك، بما أن الكتابة تنال جزءا من سُموِّها، حسب مدى قدرتها على الخلق الرمزي وحبك المصائر.

تُمثل شخصية حمّاد الآخرَ الداخلي للسارد، فرواية «عودة المرحوم» تحمل ملامح كتابةٍ سيرية يرويها السارد عن حمّاد، لكن الميثاق السردي وتطابُقه مع المؤلف المرجعي للنص، يكشف عن نفسه في أكثر من مظهر سردي، ويتّضح ذلك أكثر مع توالي السرد، لاسيما عند الفصلين الأخيرين، حيث ينفرط الحجاب الفاصل حتى يصير قاب قوسين من التطابق، أو أدنى، ويتّضح حينها أن السارد يتحدث عن مسار تكوينه الثقافي العام مستعيرا قناع شخصية حمّاد. أما واقعة موت حمّاد وحفل التأبين المُقام تكريما لروحه، فليست سوى واحدة من حركات الحاوي الحكواتي، لترسيخ الإيهام الجمالي بإمكانية موت وعودة المرحوم.

هي إذن كتابة سيرية، وفي الآن نفسه أقرب إلى تقديم شهادة عن التكوين الثقافي والسياسي لجيل المؤلف المرجعي، جيل في نسخة فردية. في هذا المنحى يقول السارد متحدثا عن حماد: «وربما لأجل ذلك أكتب اليوم ما أكتبه تحية لذكراه وإشادة بنبله وسيرته الطيبة» وفي حديث آخر عن رسالة قديمة إلى حمّاد يضيف السارد: «هي منقولة هنا حرفيا لتعطي فكرة ربما وافية عن جزء من حياته التي صارت اليوم قطعة من الماضي» لذلك فهي رواية أقرب إلى مشافهة يدعو الكاتبُ من خلالها قارئه المفترض إلى كأس في مشرب ليلَ نهار، أو إلى فنجان أو كأس شاي في مقهى الصباح، مُتحدثا إليه مثل حكواتي حاذق بلا تكلُّف أو بُهرج. وإن يبدو لاهيا مُتفكّها غير راغب في الإثقال على القارئ الضيف، إلا أن المؤلف يكتب مرثية لا تخلو من مرارة وسخرية فادحة، مرثية للذات وللجماعة.

*ناقد مغربي