رأي

محمد الهيني: "مؤامرة حقوقية"

“تجييش بعض المعتقلين السابقين للحديث عن سنوات الرصاص، وتأليب أصوات راهنة للحديث عن موجة جديدة من سنوات الرصاص.. إنما هي خطة مدروسة بخلفيات سياسية فوق “حقوقية”، لخلق انطباع إحساسي بأننا نعيش “ردة حقوقية”.

تثير الخرجات الإعلامية المتزامنة والمتناسقة والمتواترة لعدد من المعتقلين السابقين في إطار ” الخصومات العقدية والفكرية والإيديولوجية مع النسق السياسي الذي كان قائما في سنوات السبعينات والثمانينات بالمغرب”، مجموعة من التساؤلات المشروعة حول منطلقات هذه الخرجات الإعلامية، ودوافعها الجماعية المتزامنة، ومخرجاتها الحقيقية في ظل “التقاطع المصلحي” أو “الاستغلال الحقوقي” من طرف بعض الأصوات والتدوينات الراهنة، التي تمعن في التسويق “لردة حقوقية مزعومة” عبر إعادة تقاسم حكايات ضحايا سابقين واستلهام ممارسات من الماضي مع إسقاطها على السياق الحالي.

الصدفة.. في موضع اتهام

لا يمكن أن نحمّل الصدفة وحدها مسؤولية “الصحوة الطارئة” لذاكرة جمال بنعمر، الذي أصرّ على العودة بالقارئ المغربي لأحداث سياسية وأمنية وقعت منذ أكثر من 45 سنة! بقاموس ينهل من مفردات الغرفة “101”، وبمعجم يُنكر مصالحات العدالة الانتقالية التي شهدها المغرب، وبسريرة داخلية موغلة في “لوعة” الانتقام والقصاص ممن أسدل عليهم وسم “الجلادين”، مع أن “العقيدة الحقوقية” إنما أكثر ما تزدري هي مظاهر العدالة الخاصة التي كانت تصدح من تدوينة هذا الخبير الأممي، الذي كان حريا به أن يكتفي بالمطالبة بتطبيق العدالة وعدم الإفلات من العقاب، لا أن يصب الملح على ندوب الماضي في محاولة لإثخان الجروح المندملة بعد أكثر من أربعة عقود.

ولا يمكن أيضا أن نعلّق على مشجب “الصدفة” تلك العبارة “غير العابرة” التي وردت في تدوينة جمال بنعمر وتكررت مع باقي الرعيل الأول من المعتقلين الذين عادوا من الذاكرة الفردية أو الشعبية إلى العالم الافتراضي الفايسبوكي. فمبعوث اليمن السابق تحدث عن عدم الإدراك المادي “للتغيير السياسي الحقيقي المنشود”، ومحمد الساسي العائد من محراب العزلة يتحدث عن الإحباط بسبب ما اعتبره “سخرية الناس من أطروحات رفاقه عن الانتقال الديمقراطي والتطور التدريجي”، بينما انبرى المعتقل السابق أحمد الحو يتحدث عن “القوى المقاومة لأي أفق حقوقي وديمقراطي، التي استغلت أحداث 16 ماي الإرهابية لتمرير قانون الإرهاب” إيذانا بعودة ما اعتبرها “الاختطافات والقتل تحت التعذيب بمخافر الشرطة السرية”.

بل إن هذا الأخير قال صراحة ما لم يتجاسر به سالفوه ” لقد وجدنا أنفسنا كمن عاد على بدء”.

فالصدفة وحدها لا يمكن أن تكون مسؤولة عن ترتيب هذه “الصحوة” الجماعية المتزامنة والمتناسقة في المبنى والمعنى، لسبب بسيط هو انتفاء روابط السياق وإن تقاطعت خلفيات هؤلاء “الحكواتيين العائدين من الماضي”. أكثر من ذلك، فالإمعان المشترك في الترويج لاستيهامات غياب “الانتقال الديمقراطي المأمول بالمغرب والعودة المفترضة إلى البدء، أي ما قبل سنوات الرصاص”، يجعلنا ندقق كثيرا في حقيقة منطلقات وخلفيات مثل هذه التدوينات والخرجات التي تضع “الصدفة” في موضع الشك والاتهام.

إسقاطات “الزين” على المغرب

في الوقت الذي يحصد فيه المغرب ثمار الانتصار الدبلوماسي في الصحراء المغربية، ويتزايد فيه مستوى “تشبيك” اللحمة الداخلية في سياق الجائحة الصحية، تخرج نفس الوجوه “الحقوقية” والإعلامية المألوفة للحديث عن “تمظهرات نظام زين العابدين بن علي بالمغرب”، في محاولة لنثر إيحاءات سلبية على النظام السياسي المغربي المزهو بانتصاراته الدبلوماسية.

فالعدد الصحفي الذي أفردته سعيدة الكامل لما وصفته بعودة “البنعلة إلى المغرب”، إنما انطلقت فيه من خلفية راسخة وقناعة ذاتية هي الرغبة في وسم النظام المغربي بسلبيات “نظام بن علي في تونس”، قبل أن تنتقل لاحقا إلى “الواقع لتبحث فيه عن ما يدعم فرضية أتت بها معها، متجاهلة كل ما يزعج نظريتها”.

وقد تفوقت بذلك في تجسيد مفهوم “الإيديولوجي” الذي قدمه الفيلسوف اليساري الفرنسي Louis Pierre Althusser، لأنها أقصت عمدا كل الشهادات والأصوات والإفادات التي يمكن أن تشوش على قناعاتها الراسخة، أو ترشح بنقيض تلك القناعات، واستشهدت في المقابل، وبشكل حصري، بمن يعزفون كورال “سلبيات نظام بن علي” لأنهم الوحيدون الذين يحققون لها تلك المصالحة المخدومة بين الإيديولوجيا والواقع.

واللافت أنه حتى من لا ذاكرة له، ولا تاريخ نضالِ مشهود له، خرج هو الآخر يستعرض “تصوراته الانطباعية عن التعذيب”، في محاولة للترويج ل “ممارسات محيّنة وراهنية مزعومة” لما عاشه جمال بنعمر وأحمد الحلو وفق روايتهم طبعا. فعفاف برناني مثلا، موزعة هاتف توفيق بوعشرين ومنظفة مكتبه سابقا، انبرت هي الأخرى تستعرض تفاصيل ليلة استقدامها بالقوة العمومية إلى المحكمة للشهادة، مسدلة على هذا الإجراء القانوني والتدبير المسطري “مؤثرات بصرية عديدة” في محاولة لتقديمه وكأنه “خازوق التعذيب من زمن العثمانيين”.

بل إن هذه الأجيرة، التي أمست صحفية في “رصيف” شارع ابن خلدون وشارع محمد الخامس بتونس، تماهت كثيرا مع تمثلات التعذيب المزعوم لدرجة أنها استعملت أوصافا وتعابير جرّت عليها سخرية كبيرة.

فالسيدة تحدثت في تدوينتها عن مسؤول أمني “قصير جدا”، بيد أن قانون الشرطة أول ما يستوجب في منتسبيه من شروط هي طول القامة، كما أنها نقلت عن هذا المسؤول (القصير جدا) قوله “أنت بالضبط غادي تمشي فالواشمة”، في إشارة إلى سيارة الشرطة، وكانت هذه كبوة كبيرة وزلة مفضوحة في الحكي، لأن “الواشمة” هو لفظ مجازي قدحي يستعمله بعض الأشخاص، وليس رجال الشرطة كما زعمت، والذين يبقى لهم قاموس خاص بهم لهذه المركبات الشرطية.

أسئلة مشروعة.. وخلفيات مشبوهة

لا أحد منا ينكر أن المغرب حقق مكتسبات عديدة في الحقل الحقوقي.

ولا أحد يجادل في أن التعذيب الممنهج أصبح جزءا غير مأسوف عليه من ماضي المغرب بدليل شهادات الآليات والمساطر الخاصة للأمم المتحدة بمن فيها المقرر الأممي الخاص بالتعذيب الذي تحدث عن “تحسن الوضع الحقوقي بشكل عام”.

كما أن لا أحد أيضا يزعم أن المغرب “جنة حقوقية” كما قال وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان في واحدة من خرجاته الإعلامية.

لكن الخروج المفاجئ لجمال بنعمر في السياق الحالي، بدون موجبات واضحة لهذا الخروج، وما واكبها من تواتر للتصريحات المتناسقة والمتزامنة لباقي “الخارجين” الذين يتحدثون عن “ردة حقوقية مفترضة”، إنما يجعلنا نتساءل عما إذا كان هناك شيء يدبر وراء الستار؟ وهل هناك أيادي غير بيضاء تحاول تلطيخ صورة المغرب في الداخل وفي المحافل الدولية؟ وما إذا كان هناك شخص أو جهة توعز بهذه الخرجات لخلق مؤشرات تقارب وهمية بين عقد السبعينات والألفية الثالثة؟

ومرد هذه التساؤلات المشروعة، أن الدكتور والعالم منصف السلاوي مثلا، خرج من المغرب في ظروف مشابهة أو قريبة من ظروف جمال بن عمر، لكنه لم يستحضر التاريخ بخلفيات الانتقام، ولا أقام جسورا انطباعية بين سنوات الرصاص وواقع حقوق الإنسان بالمغرب.

كما أن قيدوم المناضلين امبارك بودرقة المعروف ب”عباس” الذي كان محكوما بالإعدام، ووثّق شذرات من حياته في مؤلف تحت عنوان “بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة”، لم يتحدث نهائيا عن التاريخ بنبرة التوّاق للانتقام، وإنما من منظور التوثيق والترصيد، قبل أن ينخرط في إشاعة وتعميم ثقافة حقوق الإنسان في الأقاليم الجنوبية للمملكة في مصوغة للتدريب وضعها رهن إشارة القائمين على إنفاذ القانون.

فهذه الأمثلة وغيرها من النماذج المستقاة من تاريخ المغرب المعاصر كثيرة ومتعددة، لازال سجل الحقيقة والانصاف يحفظها كبقايا” الوشم في ظاهر اليد”. وهي نماذج كثيرا ما اعتزت بنضالها الحقيقي واعتبرته النواة الصلبة للانتقال الحقوقي والديموقراطي بالمغرب، ونذرته لصالح ديمقراطية المغرب والمغاربة.

لكنها لم تصدح يوما بالرغبة في الانتقام، ولا طبّعت مع مظاهر العدالة الخاصة، ولا سمحت بأن تكون مجرد “دمى في مسرحية عرائس” يتحكم في إيقاعاتها وتدويناتها أصحاب “الرأسمال الحقوقي”.