رأي

محمد العلوي: البحث العلمي الجامعي وقضية الشيخ والمريد

تناسلت في الآونة الأخيرة إصدارات “علمية” من كتب جماعية، وندوات ومؤتمرات ولقاءات، ومقالات منثورة هنا وهناك، في منابر أكاديمية وغيرها، كان من ورائها ثلة من الباحثين الشباب الطموحين. وهذا – لعمري – يسعد القلب ويبهجه، خاصة أن هذه الأنشطة العلمية خرجت من رحم الجامعة المغربية التي عرفت نكوصا لزمن ليس بالهين، وجفت فيها أقلام الباحثين – إلا لماما- وقلت فيها الأنشطة العلمية. ورغم هذا كله، فليست الصورة وردية دائما، وليس كل ما خرج إلى الوجود من تلك الأنشطة والإصدارات مما يستحق التشجيع.

نعم، هي لحظة تاريخية فارقة جدا في تاريخ الأنشطة العلمية الأكاديمية الجامعية بالمغرب، وينبغي أن تنال اهتمام جميع الفاعلين الأكاديميين المشرفين على المختبرات والفرق العلمية، فضلا عن المؤسسات الراعية لتلك الأنشطة. هي لحظة فارقة وتاريخية من زاويتين؛ تقتضي كل زاوية النظر إليها بعين ثاقبة، وبخطى واثقة، وبنوع من الحذر والضبط العلمي والمنهجي.

فأما الزاوية الأولى فهي زاوية النهوض بعد النكوص، وهذه الصحوة العلمية لشباب باحث طموح من داخل الجامعات ومختبرات البحث وفرقه. لقد ظلت كثير من المختبرات واللجن العلمية “نائمة” وغير مفعلة، بل إن بعضها لا يكاد عدد الأنشطة العلمية الذي أقامته وأشرفت عليه يتجاوز أصابع اليد الواحدة خلال أربع سنوات (العمر القانوني لهذه المختبرات). وإذا ما تمت هذه الأنشطة المختلفة (مؤتمرات، ندوات، لقاءات علمية..) فإنك لا تجد فيها حظا ولا مكانا للطلبة الباحثين في سلك الدكتوراه تحديدا، وفي بعض الأحيان، لا تجد مكانا حتى لبعض الأساتذة الجدد الملتحقين بالجامعات. فظل بعض “قدماء” الأساتذة، والشيوخ منهم يحتكرون المعرفة، ويحتركون الأنشطة، فلا مشاركة إلا لمن أذِنوا له، ورضوا عنه. والرضا هنا – في أغلب الأحيان – لا ينبني إلا على أساس “الشيخ والمريد” وعلى الطاعة العمياء، وعلى مقدار التزامك – بوعي أو بدونه – بالخط العلمي “للأستاذ الشيخ”. وهكذا، غدت بعض الفرق والمختبرات، في بعض الكليات، وكأنها زوايا صوفية، كلما قدمتَ الولاء والطاعة للشيخ، كلما كان لكَ حظ من بعض تلك الأنشطة. مثل هذه الممارسات أذكت الصراعات بين الأساتذة الباحثين، وزادت من حدتها، لدرجة تصل أحيانا إلى تبرير بعض التصرفات باسم العلم، وباسم البحث، رغبة في “تكثير سواد” المريدين. هؤلاء المريدون هم في الأغلب الأعم طلبة سلك الدكتوراه الذين يفعلون “الأفاعيل” وينقلون “الأقاويل”، ما صح منها وما لم يصح، لشيخهم صاحب الأمر والنهي، ومالك زمام المختبر أو الفريق، ليرضى عنهم، فيقربهم أكثر إليه، ويحظوا “بشرف حمل محفظته” تبركا وتملقا في سبيل أن يجدوا لهم مكانا في تلك الأنشطة العلمية، أو ليتم التغاضي عن زلاتهم وضعف مستواهم..

مع الأسف، هذا واقع مرير نشهده في بعض جامعاتنا، والحمد لله أن الله سخر في كل الجامعات أساتذة علماء شرفاء ينافحون عن الحق، ويؤطرون الباحثين تأطيرا علميا رصينا بعيدا عن علاقة الشيخ والمريد، إلى علاقة العلم والعلمية. ولو كان المقام يتسع لذكرت أمثلة كثيرة لأساتذة كان لهم الفضل في أن يسلك طلبتهم مسارات العلم المختلفة بكل ثقة واقتدار، بل إن شهرة بعض الباحثين وقوتهم العلمية فاقت شهرة وقوة أساتذتهم المؤطرين. لكن – رغم هذا فمثل بعض تلك التصرفات التي أشرنا إليها موجودة وتؤثر سلبا على سمعة العلم، ومستقبل البحث العلمي.

وأما الزاوية الثانية، فهي زاوية الانفصال العلمي لبعض الطلبة الباحثين عن سكة العلم والعلماء، ظنا منهم أنهم صاروا يمتلكون مفاتيح البحث العلمي، وأنهم قادرون على الاستغناء – كليا – عن أساتذتهم، فأضحوا ينظمون أنشطة علمية مبتورة، ويخرجون للعلن كتبا ومقالات أقل ما يقال عنها أنها “هرطقات علمية” و”خزعبلات فكرية”، لأنها لم تحظ بالتحكيم العلمي، ولم يقرأ أبحاثها أساتذتهم المتخصصون. هكذا، صرنا نتفاجأ بأبحاث تسمى “علمية” والعلم منها براء. بل – إن العجب – كل العجب – أن يكون المؤلَّف الصادر متضمنا – زورا وبهتانا – لجنة علمية، دون أن تحكم هذه اللجنة بحثا واحدا، وإنما جمعها المشرف أو المشرفون على “الكتاب العلمي”، فأخرجت تحت غطاء العلم. وكم نتعجب عندما يكون من ضمن اللجنة العلمية، في بعضها الآخر، طلبة باحثون مازالوا يخوضون غمار البحث العلمي، ومازالوا يعدون أطاريحهم للدكتوراه، بل إن بعضهم بالكاد انخرط في سلك الدكتوراه ومازال يتلمس طريقه العلمي الطويل. فكيف يتجرأ مثل هؤلاء أن تكون أسماؤهم ضمن اللجنة العلمية لهذا المؤلف أو لتلك الندوة.؟ وكيف ستكون الأبحاث التي أشرف عليها مثل هؤلاء؟

إنني من دعاة تشجيع الباحثين الشباب وفتح الباب أمامهم مشرعا، وأقول: إن ما حصل ويحصل، هو نتيجة ما عانوه سنين طوالا من رقابة بعض “الأساتذة” الذين سدوا المنابع، وتحكموا في دواليب المختبرات والفرق العلمية، وجعلوا “الأختام” في محفظاتهم أو في درج مكاتبهم، فلا هم أنتجوا معرفة، ولا هم تركوا هؤلاء الشباب ينتجون ويخرجون ما لديهم من أفكار. ولست هنا مبالغا في قولي هذا؛ إذ يكفي أن نطالع التقارير السنوية التي تصدر عن المؤسسات العلمية والإدارية المتخصصة لنصدم بضآلة ما يكتبه الأساتذة الجامعيون، وما يخلفوه من ورائهم من أبحاث.

طبيعي، إذا، أن يسعى هؤلاء الشباب الطموحون إلى إيجاد طرق للمشاركات العلمية، وسبلا للنشر.. وهذا ما ينبغي أن نشجعهم عليه دائما وأبدا. لكن، في الآن نفسه، فإن المبررات أعلاه لا تعطيهم الحق في الخروج عن سكة العلم الجاد، الخاضع للضوابط المنهجية والمعرفية المتعارف عليها، ولا ينبغي أن تدفعهم تلك المبررات ليصبحوا من “الخوارج العلميين” الذين تسول لهم أنفسهم أن يكونوا ضمن لجن علمية محكمة، وهم مازالوا يتلمسون طريق البحث العلمي في سلك الدكتوراه، بل يتطاول بعضهم على أساتذتهم نقدا، هو في أصله سباب وشتم وتحقير، وليس نقدا علميا مبنيا على أفكار متقنة وجديدة، ووفق الضوابط العلمية المعروفة. فليعلم هؤلاء الشباب الطموح – رعاه الله – أن التجاسر على الأساتذة، وعلى العلماء لا يقل – في نظري – عن التجاسر على الوالدين. وهذا نوع من العقوق العلمي، والصعلكة العلمية.

أعود في الختام لأقول، إن مسؤولية الأساتذة الجامعيين في المختبرات والفرق البحثية تأطيرُ هؤلاء الشباب وتدريبهم، وقبل هذا تقريبُهم منهم ليكونوا أصدقاء وطلبة علم حقيقيين، لا مجرد مريدين عليهم السمع والطاعة. كما على الأساتذة أيضا أن يفسحوا المجال للمشاركات العلمية إلى جانبهم في المؤتمرات والندوات، لكن بتأطيرهم ورعايتهم، بكل حب وتقدير لشخصهم، وليس بنوع من السلطوية والتقريع بدعوى أنهم مجرد طلبة باحثين. إن تقدير الإنسان حق كل فرد؛ فما بالك أن يكون من عليك أن تقدّرهم طلبة علم سيحملون المشعل من بعدك؟. هكذا نرى العلاقة بين الأستاذ والطالب الباحث، علاقة ود ومحبة، قبل أن تكون علاقة إشراف وتأطير.

كما ينبغي على طلبة العلم أن يلينوا بين يدي أساتذتهم، ويتحملوا بعض ما يعتريهم من قلق بكل احترام نابع من باب المحبة لا من باب التقديس أو التأليه.

كما نرى أنه من اللازم على الباحث الشاب ألا يتجاسر على اللجن العلمية، فيجعل اسمه ضمنها، وهو نفسه ما زال يتلمس طريق البحث، ولم ينُهِ مشوار الدكتوراه على الأقل.

إنني لا أريد أن تكون العلاقة علاقة انفصال وانصرام؛ فلا هؤلاء يؤطرون، ولا هؤلاء يتقيدون.. ما أختم به كلمتي هذه هو أني لا أدعو إلى أن يكف الباحثون الشباب عن مبادراتهم العلمية المختلفة، بل أشجعهم وأحثهم على أن يزيدوا منها، ويبحثوا عن الأساتذة الذين يساعدونهم ويؤطرونهم ويأخذون بأيديهم، حتى تنتقل المعرفة من جيل إلى جيل بكل سلاسة، وبكل أمانة، دون أن يلسبوا جلابيب أساتذتهم، ولا أن يسكنوا مساكنهم، وإنما ليبنوا لأنفسهم مساكنهم الخاصة وليلبسوا ما يليق بهم من ثياب العلم والأخلاق.

ولنا في الإمامين مالك والشافعي – رحمهما الله – خير مثال عما نذهب إليه؛ فلا الأول تسيّد على الثاني، فألزمه اجتهاداته ومذهبه، ولا الثاني تجاسر على الأول وتطاول عليه. وكانا معا خير إمامين لهذه العلاقة التي ندعو إليها في مقالنا هذا، والحمد لله رب العالمين.