قضايا

الحريات الفردية والمسؤوليات الأخلاقية.. تعارض أم تكامل؟

حسين الحساني*

تطفو على السطح بين الفينة والأخرى نقاشات ومجادلات داخل المجتمع المغربي، قد ينظر إليها البعض على أنها ترف، فيما يجدها البعض الآخر ضرورية وذات راهنية.

ونقاش الحريات الفردية الذي يعتمل في المغرب يبدو حقلا خصبا للجدال والسجال؛ يبرز حينا ويتوارى أحيانا ليعاود الظهور في الشارع والصحافة والإعلام، وفي منصات التواصل الاجتماعي.

وقد أعادت واقعة سيدة بمدينة تطوان، كانت ضحية مقطع فيديو إباحي تم تداوله على نطاق واسع عبر وسائط التواصل الاجتماعي، إلى الواجهة نقاش الممارسة الفردية للحريات الجماعية، وما أعقبه من مطالبات بإلغاء الفصل 490 من القانون الجنائي الذي يجرم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج.

قضية “سيدة تطوان”، وقبلها “قضية التنورة”، وغيرها من “النوازل”، تضع المغاربة من جديد أمام تجاذب جدلي بين ما هو محلي وما هو كوني في دوامة التدافع المجتمعي لتكريس قيم يعتبرها البعض حرية منضبطة ومسؤولة ترفض التكبيل، بينما يراها البعض الآخر حرية متسيبة و”تطبيع مع الفاحشة”.

وفي جو الجدل القائم حول الحريات الفردية، يقول المتمسك أحمد، وهو أستاذ جامعي وباحث في علم الاجتماع، إن هذا “النقاش يعكس التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع المغربي”، لافتا إلى أن “الحريات الشخصية لم تعد تندرج ضمن خانة الكماليات، بل أضحت تشكل رافدا أساسيا من الروافد الضرورية للتقدم والازدهار”.

وحذر المتمسك، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، من مغبة اختزال مفهوم الحريات الفردية في العلاقات الجنسية قبل الزواج، علما بأن هذا المفهوم أوسع بكثير ويتضمن شتى حقوق الفرد والمجتمع على السواء، موضحا أنه يتعين التمييز بين التمظهرات الخارجية لهذه الظاهرة وبين ما تحمله من خلفية وبنية عميقة تضبط حقل الدينامية الاجتماعية.

ومضى قائلا “قد يدعي البعض أن تغيير الأفكار يأتي بعد تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في حين أن الطرح السليم يبدأ بأفكار بسيطة وجريئة تجعل من الفرد قوة اقتراحية فاعلة تساهم في إطلاق العنان للإبداع والابتكار من أجل تغيير المجتمع”.

مجتمع يضعه الأستاذ الباحث في الفن المعاصر، محمد الشرقاوي، في عين العاصفة بقوله إن “المشكلة الحقيقية تكمن في المجتمع المغربي الذي يؤمن بحقيقة أن كل ما لا يراه لا وجود له، ولمّا يفتح عينيه يشرع في محاسبة الآخر”.

إذ يعتبر الشرقاوي، في تصريح مماثل، أن معضلة الحريات الفردية في المغرب ليست وليدة اليوم، “وكل ما في الأمر أنها أصبحت أكثر إلحاحا مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي أخرجت هذه الحريات، خاصة الأكثر إثارة منها للجدل، من السر إلى العلن”.

واستطرد قائلا “العيب في نظرة المجتمع القاصرة التي ما زالت تربط حرية الجسد بالجنس، ولا ترى فيها صورة للإنسان وانعكاسا للذات. فالجسد يظل الأساس الأول والأخير لفهم المخزون والمكنون”.

بيد أن فئة عريضة من المجتمع المغربي -يضيف الباحث- بدأت تشهد تغيرات صريحة على مستوى نواة الأسرة؛ إذ لم يعد دور الأب مركزيا ولا دور الأم هامشيا، وأصبح للأبناء رأي يعتد به داخل الأسرة، مشددا على أهمية تحقيق مطلب الحريات الفردية لبناء مجتمع حداثي قادر على مجابهة تحديات المستقبل وحماية خصوصيات أفراده.

وعن الحق في الخصوصية، يقول أستاذ الإعلام والاتصال بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، محمد عبد الوهاب العلالي، إن واقعة “سيدة تطوان” بانعكاساتها المختلفة أوقعت المنظومة القانونية في امتحان حقيقي إزاء موضوع الحق في الصورة، ومكانتها ودورها في مجتمعنا اليوم.

وأضاف العلالي، في تصريح للوكالة، “على الرغم من أن الوثيقة الدستورية لسنة 2011 تنص في الفصل 24 بشكل واضح على حماية الحياة الخاصة التي تشكل الواقعة الاجتماعية المشار إليها نموذجا لها، فإن حالة الإرباك التي كرستها الواقعة حملت الضحية كل التبعات القانونية، من خلال تحويلها إلى متهمة”.

ومضى متسائلا “كيف يمكن بناء قرائن على واقعة تعود إلى سنوات خلت، كانت حينها الفتاة المتهمة عازبة وهي اليوم أم لطلفيْن؟ مشيرا إلى الأضرار التي طالت الضحية جراء قرار المحكمة إدانتها بعقوبة حبسية كان يمكن لغرامة أن تفي بالغرض الاجتماعي من وراء العقوبة.

واعتبر العلالي أن المسار الذي اتخذته هذه القضية غير سليم ويشكل انحرافا عن الوجهة الحقيقية التي كان يتعين على المسار القانوني القويم أن يسلكها من خلال طرح القضية باعتبارها موضوعا مرتبطا بالحق في الصورة والخصوصية.

طرْح يرد عليه رشيد أنزيض، وهو باحث في علم الاجتماع والتاريخ والتراث، بالقول “إن ما قد يعتبره البعض انتهاكا للحياة الخاصة للفرد، قد يراه البعض الآخر إخلالا بهوية المجتمع وقيمه”.

وأوضح أنزيض، في تصريح مماثل، قائلا “بدون النظر إلى المسألة في شموليتها والبحث عن الجوهر الأساسي لتمكين الفرد من تحقيق حريته في تناغم مع المجتمع والحريات العامة، سيظل الصراع قائما بين الاختيارات الفردية والنظام الاجتماعي”، مشيرا إلى أن “هذا التناقض يعد مسألة طبيعية ناتجة عن صراع المصالح؛ فما قد يعتبر حقا لدى البعض يعد انتهاكا لدى البعض الآخر، وهي قاعدة عامة تسري على كافة المجتمعات”.

وحذر من أن تنامي النزعة الفردانية الأنانية على أنقاض المصلحة العامة، قد يدفع بالمرء إلى الاهتمام بحريته الخاصة على حساب حرية المجتمع، مشددا على أنه لا تحرر للفرد دون تحرر المجتمع، وأن القوانين لا يمكن أن تتغير بما يخدم حرية الفرد وخصوصيته إلا بوجود أساس مادي يرتبط بشكل جدلي بالنسق القيمي والاجتماعي للأخلاق العامة.

رأي يقابله رأي المنسق العام لمعهد بروميثيوس للديمقراطية وحقوق الإنسان، ياسين بزاز، القائل بأنه “عند الحديث عن الحريات الفردية أو العلاقات الجنسية الرضائية، فإنه لا وجود لشيء اسمه الأخلاق العامة لأن مكان ممارستها بالضرورة مكان خاص”.

وأضاف بزاز، في تصريح لـ(و م ع)، أنه “ليس هناك سند ديني أو حقوقي يجرم مثل هذه الحريات أو العلاقات، فشروط الإسلام في إثبات واقعة الزنا، على سبيل المثال، تكاد تكون تعجيزية، إذ يقترن الإثبات بحضور أربعة شهود”، لافتا إلى أن الإسلام “يبتغي بذلك إضفاء نوع من القدسية على الحياة الخاصة”.

وعلى غرار إصلاح مدونة الأسرة سنة 2004، اعتبر المنسق العام للمعهد أن المشرع المغربي مدعو للعمل على تعديل أو إلغاء بعض فصول القانون الجنائي، وعلى رأسها الفصل 490، وذلك من منطلق إعمال العقل والمصلحة لحفظ كرامة الإنسان والمساهمة في الارتقاء بالمشهد الحقوقي في البلاد.

وبعيدا عن اختزال هذه المجادلة في مجرد سجال بين رجعيين وتحرريين، يظل هذا النقاش الحي، الذي يتخذ صيغا راديكالية تارة وعقلانية تارة أخرى، ظاهرة صحية في مجتمع منفتح يشهد تدافعا للأفكار والآراء التي يفرضها سياق التغيرات البنيوية التي يشهدها المجتمع المغربي بحثا عن بناء منظومة متكاملة للحقوق والحريات الفردية والجماعية.

فما يزال الجدال مفتوحا حول العلاقة بين الحرية الفردية والمسؤولية الأخلاقية التي تتجاوز، في كثير من الأحيان، مسألة التعارض أو التكامل، وذلك باعتبارهما تعكسان نظرة مختلفة، ليست بالضرورة تصادمية أو توافقية، للإنسان محليا وكونيا.

*(وم ع)