قضايا

أي التفات للتربية على الإيجابية وأي إنصات للمتمدرسين..؟

عبد السلام انويكًة

ثقافة سلطة وطاعة وتراتبية وإرادة راشد عبر قوة وعنف وعقاب وتخويف… كانت هي طبيعة علاقة عمودية بين أسرة وطفل وبينه وبين مدرسة ومدرس في نهج تربوي وعمل تعليمي تقليدي، ما كان يروم بالدرجة الأولى واجب تقدير كبار من قِبل صغار دون وعي بموقع هؤلاء ككائنات بحاجات نفسية خاصة، تقتضي جملة قيم تجمع بين تواصل وتسامح وليونة ورضى… وبقدر ما اعتبر هذا الأسلوب في ماضي الأسرة والمدرسة بنجاعة في تأمين إرثٍ ما وتحقيق احترام قواعد وثوابت على مدى قصير، بقدر ما تبين افتقاره لاحقاً كمقاربة لكل قيمة ضمن مدى بعيد لدرجة نتائج عكسية، وأن العقاب مثلاً في نهج كهذا لا يكون سوى بأثر سلبي على مدى بعيد وفق ما انتهت إليه جملة دراسات علمية نفسية عصبية، ومن ثمة حاجة الأسرة والمدرسة والمدرسين والتربويين على حد سواء لورش تربية على ما هو إيجابية وسلوك حسن، مع تنمية ثقافة وقيم تعاونٍ عبر تفاهمٍ وتواصلٍ وإكسابِ ما ينبغي من لطافة وكيفية استثمار ما هناك من ذكاءات.

ولعل التربية على اللطافة من جملة ما تستهدف، موقعاً وسطاً في الوسط المدرسي عبر ما ينبغي من علاقات أفقية يتم فيها تثمين النفسي الوجداني من حاجات متمدرسين، حتى لا تكون الغاية تحقيق طاعة ما ضمن علاقة ما مثلاً، بل بناؤها في إطار تعاون واحترام بين “طفل” و”راشد” باعتبارهما كائنين إنسانيين يتقاسمان قيماً مشتركة. وغير خاف ما كان من هاجس بحث للمدرسة والمدرسين والتربية والتربويين في الماضي، عن ثقافة وقيم وسلوك طاعة واحترام بشكل سريع في وسط متمدرسين، وفق ما يتماشى وينسجم مع وضع سسيو ثقافي ما كائن.

وإذا كانت هذه هي معالم طفل متمدرس صالح بين قوسين في نهج ماض تربوي، ففي الوعي الحديث وعمل التربية على حسن السلوك والإيجابية يتم إعطاء أهمية أكثر لِما يكتسب عبر سبل فهم وقناعة، مع أخذ حاجات الطفل النفسية بعين الاعتبار دون إلزامه بأي سلوك، عبر اعتماد ما يسمح بتعاونه وخلق علاقات ثقة بينه وبين راشدين لبلوغ أهداف ما بعيداً عن كل ضغط وقوة وعنف وتخويف. ومن هنا فالتربية على الإيجابية في الحياة وحسن السلوك والعلاقة تقوم على ما ينبغي من تثمين وتحفيز وبحث عن حلول وقدوة، وتجاوز كل عقاب يخص ما ينعت بالسلبي في سلوك أطفال متمدرسين بالبحث عن فهمه وتمثله لإيجاد حلول له، مع أهمية مصاحبة هؤلاء وحل مشاكلهم عبر تعاونهم وتعميق العلاقة معهم من أجل ما هو أفضل. ولعل التربية على السلوك الإيجابي تقوم على علوم الإنسان ومنها الدراسات النفسية العصبية التي كانت بأثر على أنظمة وأساليب التربية بالمؤسسات التعليمية، فالأبحاث العلمية التي توجهت بعنايتها لدماغ الإنسان وأنشطة التعليم، بقدر ما اتسعت خلال العقود الأخيرة بقدر ما انتهت بنتائج هامة تخص التربية دون عنف.

وعلى أساس قيم كونية فإن لطافة تعامل وسلوك، كثيراً ما يروم حاجات نفسية من أجل انتماء ونشاط جماعي منسجم يستهدف حماية توازن وأمن وجداني فضلاً عن دعم وخدمة لعلاقات، ما يسمح بسلوكات من قبيل تعاون وصدق وتساهل وتسامح وتضامن ومسؤولية وثقة وإخلاص…، وغير خاف ما عرفته قضية السلوك من تناول خلال السنوات الأخيرة، ذلك أن الأمر يخص سؤال واقع تسامح وتجاوز في الوسط المدرسي وإيجابية ووضع لا عنف. وإذا كانت الدراسات العلمية النفسية تقول بكون الإيجابية ولطافة السلوك تقوم على حاجات وجدانية أساسية، فإن الإيمان بقدرة الأطفال المتمدرسين على التعلم يعد أساس كل عملية تعليمية، وأن بإمكان المدرسين أن يكونوا بتأثير وأثر على هؤلاء الذين يرتبطون بموارد وصعوبات ونسبة تطور خاصة.

وإذا كان مفهوم السلوك الإيجابي في الوسط المدرسي هو نتاج عيش ممتد في الزمن وجزء من إرث إنسان وثقافة، ففي بعده الحديث يروم البحث عن حلول وبناء علاقات على أساس احترام متبادل وتعلم مهارات عيش وتطوير كفايات وثقة في النفس، لمعرفة سبل تدبير مواقف صعبة وفق ما ينبغي من تعاطف واحترام ذاتٍ وآخرَ ولا عنف. وعليه، فإن التربية على السلوك الإيجابي التعاوني تطرح على التربويين جملة أدوات من شأنها تعديل تقاليد قائمة، من خلال تربيةِ ناشئةٍ متمدرسة على كفايات حياة وفق ما يقوم على احترام حاجات طرفين “أطفال” و”راشدين”.

ولعل من جملة ما ينبغي إكسابه للمتمدرسين الأطفال سبل عيش حسب وجدانهم وعواطفهم مع تعبير عنها بطرق محترمة في محيطهم، فضلاً عما يحتاجونه من مصاحبة دون إشعارهم بالخوف من الخطأ، وفضلاً عن قدرة تحديد ما يختفي من حاجات وراء سلوكات صادرة مثيرة للسؤال بالوسط المدرسي. كل ذاك من أجل اعتماد مبادئ سلوك إيجابي في المعالجة عوض ما هو عنف، ليبقى المهم والأهم إعادة نظر في علاقة ما قائمة بين آباء ومدرسين وتربويين ومؤطرين من جهة وبين متمدرسين من جهة ثانية، لتجاوز حاجز تقاليد سائدة واعتقادات مجتمعية صوب تربية مؤسسة على سلوك إجابي.

إن التربية على السلوك الحسن تسمح للمتمدرسين بالحصول على كفايات حياة، وبالتالي سبل تعليم المدرسين والتربويين ثقة هؤلاء في أنفسهم، فمع كل تقدم يحققونه يصبحون كائنات حية وجدانية إيجابية أكثر قدرة على التفكير، قادرين على اتباع قواعد كائنة وفي نفس الوقت تقويمها عارفين بسبل تدبير إخفاقات وإحباطات، مع سير بثقة في الحياة وقدرة على مواجهتها لتحقيق تطلعات دون اكتراث بأحكام آخرين. من هنا فإن التربية على الإيجابية في الحياة ولطافة سلوك وعلاقة، هي دعوة للاشتغال على الذات كآباء ومدرسين ومؤطرين ومدبرين، وعلى وجدان جمعي ودرجة ثقة في المستقبل من أجل نماء وناشئة، كذا على ما هو إرث ثقافي وأسلوب تواصل كأفق وتطوير ذاتي من شأنه أن يسهم في تحقيق أهداف منشودة، ولعل هذا الورش من الاشتغال والتغيير الذي ينبغي أن يشمل جملة واجهات منها الأسرة والمدرسة والعمل والعلاقات مع الآخر…، ليس قضية اختيار تربوي بل خيار حياة.

وللإشارة فالسلوك الإيجابي في التربية والتكوين تيار تربوي نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية خلال تسعينات القرن الماضي تأسيساً على أعمال عالمة النفس Jane Nelson، وقد بلغ فرنسا قبل عدة سنوات بفضل عالمة النفس الإكلينيكية الفرنسية Beatrice Sabaté التي كيفت دراسات الأمريكية “جان نيلسون” مقترحة تكوينات للأسر ومؤسسة للجمعية الفرنسية للسلوك الإيجابي. ولعل التربية على الإيجابية في الحياة والسلوك، تشكل خطة عمل لتسهيل ومرافقة عيش جماعي من خلال تركيزها على المتمدرسين من الأطفال وعلى محيطهم وتنشئتهم، مقاربة تتوجه أيضاً لكل الآباء والتربويين والمدبرين والمؤطرين واضعة عنصر التحفيز والتشجيع في قلب العلاقة الكائنة بالوسطين التربوي والمدرسي، وعيا بأن تربية الناشئة وتأهيلها ورش هام لبناء راشدين ومن خلالهم مستقبل مجتمع ونساء ورجال غد.

إن كل ما يتأسس على دعم وتحفيز وإقناع وقدوة وتعميق ثقة..، هو تربية على سلوك إيجابي وحُسْن ولطافة علاقة، ما يروم جعل الناشئة أكثر مسؤولية واستقلالية وتفتحاً. وكان هذا الأسلوب التربوي كمفهوم قد انتشر من خلال ما حصل من اهتمام حول أهمية الحوار دون عنف، مقاربة اهتمت أساساً بالأفراد مركزة على ما هو نفسي وجداني، بحيث من المفيد فيها التواصل إنما دون أحكام مسبقة حول الآخر ودون عنف. ولعل الثقة هي قلب أي سلوك إيجابي وحسن علاقة من أجل حسن إنصات وتشجيع واستجابة، وليست هناك طريقة خاصة يمكن اتباعها في هذا النهج التربوي فقط نصائح ذات أهمية منها تجنب السلبية.

يذكر أن التربية على الإيجابية والسلوك الحسن.. تقتضي انتماء إلى جماعة ما وحاجة ما وتواصل وتبادل للرأي وفق ما ينبغي من احترام، كذا وعي بكون العقاب رؤية بمدى قصير وأن كل سلوك له سبب وجود. ولتنزيل ورش تربية إيجابية وثقافة لطافة من المفيد تحقيق تواصل قبل أي تصحيح مع وجود علاقة وثقة، كذا وعي بالخطأ كأداة اكتساب وإغناء مع أخذ الوقت لإعادة تواصل مع الذات، فضلاً عن طرح أسئلة تهم حب استطلاع وأخيراً بناء عنصر ثقة.

من أجل هذا وذاك من رهان رمزي في المدرسة المغربية فضلاً عما هو مادي، وفي إطار تعاون مغربي أمريكي يروم تجويد سلك التعليم الإعدادي والثانوي عبر مشروع المؤسسة وتحسين بنية داعمة للتعلمات، مع رفع قدرات وكفايات الأطر الإدارية والتربوية من أجل مهمة وانخراط أوسع في ما هو منشود من أهداف. كانت مدينة فاس بداية فبراير الجاري ومعها في نفس الفترة طنجة ومراكش على موعد مع أشغال تكوين مكونين، استهدفت مؤطرين تربويين عن الأكاديمية الجهوية لتربية والتكوين ومكونين باحثين عن المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. وبقدر ما توزعت أشغال تكوين المكونين هذه على محاور بطابع بيداغوجي ديداكتيكي محض، بقدر ما استحضرت أهمية تجديد معارف ومهارات وتحسين أساليب تدخل وأثر في تكوين وتأهيل المتمدرسين، من خلال محاور ومجالات بطبيعة عرضانية منها ما هو قيمي إنساني سلوكي علائقي تفاعلي بالدرجة الأولى كما بالنسبة للتربية على اللطافة وحسن العلاقة والسلوك الإيجابي l’éducation bienveillante et discipline positive.

ولعل هذه المجزوءة في عُدة تكوين المكونين والتي أطرتها الخبيرة الباحثة في علوم العلاقات الإنسانية والتفاعلات البينية المؤسساتية الدكتورة فوزية مسعودي، تشكل موضوعاً على قدر عالٍ من الأهمية والقيمة المضافة لفائدة الأطر الإدارية والتربوية. مع أهمية الإشارة إلى أن التربية على البعد الإيجابي في الحياة وقيم الحُسن والتواصل والتعاون والتقاسم والتفاهم… لا تزال مساحة بدون ما هو كافٍ وشافٍ من عناية وموقع في مجال التكوين الأساس للأطر والتكوين المستمر في منظومة بلادنا التربوية. وغير خاف عن التربويين والمهتمين ما هناك من إشارات تحدثت عن أهمية ورهان التربية على الإيجابية والسلوك الحسن في الوسط المدرسي، مثلما ورد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين وفي تقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين، كذا ما احتوته مذكرات وزارية عدة ومعها دلائل ومشاريع تربوية وغيرها.

يبقى وعياً بقيمة الإنسان في حد ذاته وبما هناك من علاقة للسلوك بمنظومة القيم، ووعيا بدرجة تطور الوعي بمكانة الإنسان والمؤسسات في المجتمع وبطبيعة ما هو كائن من علاقات إنسانية، ووعيا بكون تنمية السلوك الإيجابي بات حاجة ملحة لترسيخ علاقات مؤسَّسة على وعي أكثر ومسؤولية بين الجميع كل من موقعه أفراد مؤسسات ومجتمع. يبقى وعيا بكل هذا وذاك من الصعب القفز على ما يمكن أن تسهم به المدرسة والأثاث الرمزي المدرسي في هذا المجال، مثلما يصعب القفز في الآن ذاته على ما يمكن أن تسهم به مجزوءة l’éducation bienveillante et discipline positive، على مستوى ما هو تربية وتكوين وتنشئة فضلاً عن تنمية ما هو مواقف وسلوك حسن وتواصل وتعاون وتضامن وتسامح وتقدير وعلائق إيجابية.