رأي

جمال المحافظ: من أجل مصالحة حقيقية للمغاربة مع تاريخهم

يبدو التساؤل المشترك الذي راود كل من تابع حضوريا أو عن بعد بالرباط حفل تقديم كتاب ” من أجل دار تاريخ المغرب. .تاريخ، ثقافة، تراث” الصادر حديثا في حلة فاخرة، عن أكاديمية المملكة المغربية، عن دواعي التأخر الكبير في تفعيل مشروع تأسيس ” دار تاريخ المغرب” الذى كان احدى توصيات هيئة الانصاف والمصالحة (2004 – 2006 )، خاصة بعد تزايد ” الطلب الاجتماعي” على التاريخ في المغرب انطلاقا من ثمانينيات القرن الماضي بفعل انتظارات وتطلعات ارتبطت بمجموعة من التطورات شهدتها البلاد في أواخر القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين..

إن مؤسسة بهذا الحجم ” دار تاريخ المغرب”، من شأنها أن تشكل أفقا في مسار ” بناء مصالحة حقيقية للمغاربة مع تاريخهم”، وأيضا ” لتمكين الأجيال المتعاقبة من معرفة المزيد عن تاريخ بلادهم العريق الممتد عبر قرون في الوقت الحاضر، والكشف عن مدى تنوع مكوناته.. وأداة تعليمية وديداتيكية  تجسدها لوحة زمنية، مسترسلة كانت أو متقطعة لمجمل عصور التاريخ”، كما أوضح عبد الجليل  لحجمري أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة في تصدير هذا الكتاب الواقع في 360 صفحة والذي يتضمن ما يناهز 30 بحثا علميا باللغتين العربية والفرنسية، لخبراء وأكاديميين في مجال العلوم الإنسانية، مغاربة وأجانب، ساهما بها في ندوة وطنية علمية احتضنتها مدينة الدار البيضاء في 13 و14 أكتوبر 2012 بمبادرة من المجلس الوطني لحقوق الانسان آنذاك.

إن نشر أعمال هذه  الندوة، هو بمثابة نداء لترسيخ الديمقراطية في بلدنا من خلال دينامية ثقافية أكثر قوة ليقتنع الجميع بضرورة تصالح الحاضر مع الماضي والماضي مع مستقبل أمة ذات تاريخ غني بالأحداث، لكن على أساس أيضا أن تعكس ” دار تاريخ المغرب”  كذلك ديباجة دستور 2011 التي حددت الهوية الوطنية في تعدديتها وعمق ترسخها والفخر الذي تلهمه لدى المواطنين المغاربة يقول لحجمري.

وترى  أكاديمية المملكة، يمكن  أن تتخذ هذه المؤسسة شكل ” فضاء للمعارض المؤقتة والدائمة”، وتضم كل أنواع الوثائق والتحف الأصلية والتربوية، الى جانب كونها مركزا للدراسات وتنظيم اللقاءات والمؤتمرات العلمية ونشر مختلف الإصدارات. ومن ثم فإن هذه الدار – يشدد لحجمري – على أنها ستعمل بتعاون وبدينامية متواصلة مع الجامعات والباحثين والجماعات الترابية والفنانين ومختلف الشبكات الثقافية والقوى الحية في المجتمع المدني، مع إضفاء الطابع المؤسسي على عمل الذاكرة الجماعية التي يتعين أن يرتبط حمايتها ( الذاكرة ) ارتباطا وثيقا بتعزيز الديمقراطية كما جاءت على لسان أحد المحاضرين في ندوة الدار البيضاء يوضح أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة .

بيد أن لحجمري اقر بأن مشروعا من هذا القبيل لا يخلو من تعقيد، ناهيك عن كونه ملئء بالمزالق، غير أن علم التاريخ بلغ درجة من النضج مكنته من تجديد أدوات التحقيق وطرق التحليل إالى الحد الذي لم يعد فيه اليوم مجال لأي كان لكي يعترض على انشاء مؤسسة ذات منفعة عامة تستجيب لتطلعات المواطنات والمواطنين، وتسهم بنجاعة في اغناء معارف الناشئة من الشباب.

وإذا كان هذا هو تمثل الاكاديمية لهذه الدار، فإن  الأستاذ محمد كنبيب الذى تولى الاشراف العلمي على هذا الإصدار، فيتصور بدوره أن مشروع ” دار تاريخ المغرب ” يمكنه أن يكون على  ” شكل دار مفتوحة الأبواب والنوافذ، مواطنين مغاربة وزوارا أجانب، وفضاء ثقافي للعرض والتواصل، يضع أمام الوافدين عليه أدوات لفهم تاريخ المغرب وفرص لاثارة تساؤلات ونقاش حول مختلف جوانبه.. وكل ما من شأنه الاسهام في استيعاب تاريخ بلادنا على أسس عقلانية، وتأمل الماضي والحاضر …

أما بخصوص سياقات اصدار هذا الكتاب، فقال ادريس اليزمي الذي تولى الاشراف على هذا الكتاب، أنه وإن كان هذا الكتاب يصدر في سياق عرف تحقيق الكثير من الخطوات، منها بطبيعة الحال للمؤسسة الارشيفية واحداث معهد ملكي للبحث في تاريخ المغرب .. لكن هذا لا ينف أن الملاحظة المركزية التي انتهت اليها مهمة هيئة الانصاف والمصالحة مازالت قائمة، باعتبار أن الذاكرة تطغى على التاريخ، مما ” علينا أن نحافظ ليس فحسب على الجهد الذي بدأته تجربة القضاء الانتقالي، بل وأن نزيد من زخمه وقوته” حسب رأيه .

وبعدما أوضح أنه ليس القصد من هذا المشروع تقديم ماض جامد لا يتغير، خلص الى القول  ” إن ما ندافع عنه هنا، هو تاريخ منفتح على القراءات المتعددة، تتم مراجعته دون انقطاع، لا تاريخ الحواجز التي تحدد هويتنا بصفة نهائية، بل تاريخ للتفاعلات والمبادلات، لا يرفض تساؤلات الحاضر، وإنما يساهم على عكس ذلك في اضاءة تلك التساؤلات من خلال التدريس والبحث، وفي تنسيبها واعطائها بعدا إنسانيا حقيقيا، يساعدنا على استعادة قدرتنا على الاشتغال واسترجاع صفتنا كمواطنين”.

وجاء مشروع تأسيس دار تاريخ  المغرب الذي دشنه المجلس الوطني لحقوق الانسان عندما كان يترأسه ادريس اليزمي، تزامنا مع التوصيات التي أصدرتها هيئة الانصاف والمصالحة، وتبين آنذاك أن هذا المشروع الذي يستحق في ظل التحولات الراهنة، إخراجه للوجود، لا يستمد شرعيته فقط في التوصية المشار اليها فحسب، ولكن أيضا الى ” الطلب الاجتماعي” الملح الساعي الى تناول هادئ لمجريات ماضي المغرب والحاجة الى كتابة أو إعادة كتابة تاريخه بأكبر قدر من الموضوعية يؤكد لحجمري، وذلك باعتبار أن التاريخ ” منبع كشف عن الحقيقة الممكن التوصل اليها بالقرائن، وأن المعرفة التاريخية سبيل للتوعية على المواطنة المجتهدة للإنصاف”، كما ذكر الأستاذ أحمد التوفيق في مداخلة بعنوان ” تاريخ المغرب، نقط في الحصيلة والآفاق” تضمنها الكتاب.

غير أن الرغبة في فهم أفضل وأعمق الأحداث والوقائع التي طبعت المرحلة الممتدة ما بين 1956 – 1999، هي في نهاية الأمر المحرك الرئيسي لهذا الطلب الملح على التاريخ، والتطلع لاستيعاب السياق العام لما جرى، خصوصا إبان الماضي القريب لتسهيل تجاوز الجراح التي تخللته وما خلفته من ندوب خاصة، وما تختزنه الذاكرة الجماعية والفردية بهذا الشأن لازال حيا يفسح المجال لتأويلات وقراءات متباينة ومتضاربة للأحداث والوقائع، ولا ييسر بالتالي لتغلب على تركة سنوات الرصاص وبناء مصالحة حقيقية للمغاربة مع تاريخهم، كما سجل الأستاذ كنبيب في المحاضرة الختامية للندوة التي تضمنها كتاب من ” أجل دار تاريخ المغرب” .

وخلال حفل تقديم المؤلف الجماعي الذي جرى بمقر أكاديمية المملكة المغربية، اعتبر كلا من لحجمري واليزمي وكنبيب في كلمات بالمناسبة، أن صدور هذا الكتاب يشكل لحظة مهمة في صيانة ذاكرتنا الوطنية، فضلا عن أن اخراج ” دار تاريخ المغرب” للوجود، يستجيب لتطلعات المغاربة للوقوف على تاريخ البلاد والمتنوع والعريق، والتعرف عليه بشكل أكبر، كما أن احداث هذه المؤسسة، ليس فقط استنادا الى شرعية توصية هيئة الانصاف والمصالحة، ولكن أيضا من ” الطلب الاجتماعي”  الملح الساعي الى تناول ماضي المغرب والحاجة الى إعادة كتابة تاريخيه بأكبر قدر من الموضوعية.