رأي

زهور كرام: الروتين اليومي والاستخدام المُبتذل

عندما يظهر مفهومٌ في حقلٍ ما، فإنه يكون حاملا لدلالة استخدامه. قد يتم تطويع المفهوم حسب سياق الاشتغال، دون أن يعني ذلك الانزياح التام عن ذاكرته أي دلالته. الروتيني اليومي من المفاهيم التي ظهرت بقوة في المغرب مع المواقع الاجتماعية وقنوات اليوتيوب، باعتبارها تجليات لطبيعة العلاقة بالتكنولوجيا، غير أن طريقة استخدامها يُسائل قضايا الفهم والوعي والتمثل والممارسة، وإلى أي حد هناك فهم لما يتم إنتاجه كمحتوى رقمي للروتين اليومي.

ماذا نعني بالروتين اليومي؟ وهل ما يحدث اليوم هو روتين يومي كما يدل عليه المفهوم؟ ما هي انعكاسات هذا المحتوى على المجتمع؟ وما نوعية المجتمع الذي سيخلقه هذا المحتوى الرقمي؟ وماذا سيستفيد المجتمع من هذا المحتوى؟

ينتمي الروتين اليومي إلى مجال الحياة اليومية التي تتميز بتكرار جزئيات اليومي، وبالتحديد مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية باعتبارها العلم الذي يدرس السلوك الاجتماعي. إنه إجراءٌ يهدف إلى تنظيم العناصر المتكررة في الحياة اليومية للفرد، مثل الأعمال المنزلية، ووجبات الأكل وحصص الرياضة وغير ذلك مما يشكل تفاصيل اليومي المتكررة. يمنح وجود روتين يومي الإحساس بالأمان لدى الفرد. ويعمل على تطوير الإحساس بالواجب. إنه تمرين يومي على ترتيب أولويات الحياة اليومية بنوع من الأمان.

يحضر التكرار عنصرا جوهريا في مفهوم الروتين اليومي، وبالتالي، فإن الأنشطة الاجتماعية العادية التي يمارسها الأفراد مرة واحدة لا تدخل في هذا المفهوم. وهذا ما يجعل طبيعة تصريف الروتين اليومي انعكاسا لحياة الفرد ونوعية أهدافه وغاياته في الحياة. إنها العادات اليومية للفرد وفق ترتيب معين للوقت في مكان محدد يعكس مجاله اليومي، ويسمح له بالتنظيم الذاتي الذي من شأنه أن يجعل الفرد يُطور حياته وشخصيته إلى الأحسن. ومن هذا المدخل تبدأ التنمية الذاتية في تدريب الفرد على تدبير الجزئيات المتكررة في اليومي.

ما يُعرض في المواقع الاجتماعية وعبر قنوات اليوتيوب من روتيني يومي بطلته مجموعة من النساء اللواتي اخترن محتوى رقميا يُناقض مفهوم الروتين اليومي، يجعل ما يُعرض ممارسة سلوكية اجتماعية تُعيد جسد المرأة إلى لعبة الاستهلاك بطريقة علانية. مما يجعل المفهوم ينهار أمام الاستخدام في مواقع التواصل الاجتماعي، وينزاح عن دلالته، ويتم تحريفه، بل إنه يُستخدم بطريقة تُناقض المفهوم، لكونه يتخذ المال هدفا له، والجسد أداة لتحصيل المال. بل الأخطر من هذا، أن الجسد يتم إخراجه من وحدته، واستخدامه بوصفه عبارة عن أجزاء منفصلة قابلة للعرض في سوق المشاهدة. وهي عملية تتم وفق منظور يتعمد البيع بالتقسيط، من أجل الرفع من أسهم المشاهدة. كل ذلك من أجل حصد المال.

ما يحدث في السوشل ميديا لا يمثل بصلة إلى ثقافة الروتين اليومي، إنما هو شكل من أشكال التسول عبر منصات التكنولوجيا بواسطة الجسد. تُشيء فيه المرأة ذاتها، والمجتمع معها، ويتحول المجتمع المُتابع بالللايكات والتعليقات إلى عبارة عن حضانة للظاهرة.

يُحول الروتين اليومي السوشل ميديا إلى غرف إباحية منزوعة الأبواب مضاءة ليلا ونهارا، مما يطرح سؤالا جوهريا حول تمثل مفهوم الافتراضي لدى صانعي هذا العرض الرقمي؟ وهل يعبر ذلك عن تراجع مختلف المرجعيات، وتحول الروتين منتوجا خارجها؟

وبتحليل للظاهرة خاصة في المجتمعات التي ظهرت فيها التكنولوجيا باعتبارها كرما تكنولوجيا وليس وسائط خدماتية باستعمالها يستطيع الإنسان أن ينتقل من حالة اجتماعية أو ثقافية إلى أخرى، مثل مجتمعنا، فإن النظر إلى طبيعة الروتين اليومي الذي تمارسه مجموعة من النساء يعبر عن مظاهر الانزياح عن مفهوم المؤسسة بما تحمله هذه الكلمة من دلالات ثقافية واجتماعية وحقوقية وقانونية ودينية، والإقامة في الافتراضي باعتباره بديلا خارج الوصايا والتعاقدات والقوانين والقيم. وهنا يُطرح سؤال الافتراضي وعلاقته بالواقعي، ومن الذي بات يشكل اليوم المرجع والسلطة. وكيف نتصور مجتمعا تتشكل علاقات وسلوكات أفراده من الافتراضي؟

ما يحدث ليس الروتين اليومي الذي يشتغل لتطوير الشخصية الإيجابية لدى الفرد، إنما هو انحرافٌ للمفهومِ، وتسويقٌ للابتذالِ، وتشيئ للمرأة، وإنتاج لثقافة القطيع.

لقد أخرج هذا النوع من الممارسة مفهوم الروتين اليومي من دلالته الاستخدامية، وأفرغه من كل دلالة تسعى إلى تطوير الخصائص الذاتية لدى الفرد. ولعل أخطر وضع معرفي قد يعيشه المفهوم في سياق اجتماعي هو إفراغه من دلالته وجعله يخدم نقيضها.

إن كل سلوك اجتماعي يتم عرضه وتسويقه فإنه يمثل ثقافة معينة. ليس بالضرورة ثقافة قائمة، لكن ثقافة في طور التشكل. وهنا الخطورة في مثل هذه الظاهرة التي كلما اتسعت، أنتجت ثقافة تُشبهها.

الأخطر في الظاهرة أنها تحولت إلى سلطة من طرف بعض وسائل الإعلام الإلكتروني الذي يسهم في الرفع من أسهم متابعيها عندما يلجأ كل مرة إلى منتجي هذه الظاهرة باعتبارهم مرجعا لإبداء الرأي في حدث أو ظاهرة. ولعله تقاسم للأدوار في جني المال على حساب توازن المجتمع وحصانة نظامه القيمي.

مع هذا الاستخدام المُنحرف للتكنولوجيا أولا ولمفهوم الروتين اليومي ثانيا تنهار كل المكتسبات الحقوقية والثقافية، من أهمها مكتسبات تحصين المرأة من اعتبارها موضوعا واختزالها في جسد، وإعادة بناء تمثل عقلاني لمفهوم المرأة بوصفها وحدة لا تتجزأ.

أين يكمن الخلل؟

قطعا ليس الخلل في التكنولوجيا من خلال الثورة الرقمية التي تقدم بدائل متنوعة لتحقيق التنمية، وإحداث التحول الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهي بدائل تستطيع أن تقدم للنساء والشباب وكل أفراد المجتمع خدمات لتغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق الوعي بالتعلم. وكل ثورة علمية يستطيع الإنسان أن يستثمرها لصالحه من أجل تطوير وضعه إلى الأحسن والأجمل. والمجتمعات تتطور بتطور وضعيات أفرادها. والتطور هنا يتحقق بالوعي بفعل استخدام العلم والتكنولوجيا. فالأنترنت هي فرصة ديمقراطية لتطوير الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للفرد، لكونها تقدم خدمات للتطور وجلب المال بكرامة، وتحقيق التنمية خارج التسول والأكل بالجسد،

لهذا عندما تحدث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيوغوتيريش عن كون الثورة التكنولوجية هي تاريخ ويجب أن يتم توجيه تقنياتها بهدف الرفع من فوائدها فقد تحدث عن الاستخدام الضار للتقنيات. كلما تم الدفع بالتقنيات التكنولوجية نحو الاستخدام السيئ، تم تعطيل مفهوم التنمية الذي تحدث عنه عالم المستقبليات الراحل المهدي المنجرة عندما قال: ” أنا من الذين يُؤمنون أنَ أحسن تفسير للتنمية هو عندما يتطور العلم إلى حضارة”. هذا يعني أن كل استخدام سيئ يُعطل السير نحو التنمية، ويُعزز التخلف. ويُؤثر في مفاهيم كثيرة منها: الشخصية المجتمعية، ثقافة مجتمع، منظومة القيم، القوة الناعمة، مكتسبات حقوقية حول المرأة باعتبارها ذاتا مكتملة في إطار وحدتها، وليس عبارة عن موضوعٍ يتم تصريفه حسب مقتضيات منطق سوق الاستهلاك.

لعل طبيعة التكنولوجيا التي تقدم خدماتها للأفراد باعتبارها أدوات إنتاج في متناول الجميع، وعبرها يتم صناعة المحتوى، قد سمح بهذه الصناعة المُبتذلة لمفهوم جوهره تدبير نظام الحياة اليومية للفرد. وإذا كانت الثورة الرقمية قد عملت على دمقرطة الولوج إلى الشبكة، وإتاحة الفرصة أمام المستخدمين لاستثمار خدماتها، فإن الاستخدام الأمي، غير المُدرك بمنطق التكنولوجيا، وتحدياتها ومخاطرها على الفرد قبل المجتمع، قد أعاد للواجهة مفاهيم : حقوق الإنسان، ومنظومة القيم، ومفهوم الحرية، وتبخيس الذات الإنسانية، وتشيئ المرأة والرجل معا، وصناعة القطيع.

العنصر الثاني الخطير الذي تولد عن ممارسة هذه الظاهرة، وصناعة هذا المحتوى هو الدفاع عن شرعيته من جهة باعتباره حرية مشروعة، وهنا يُطرح سؤال مفهوم الافتراضي لدى صانعي هذا المحتوى. والفرق بينه وبين المكان العام. وهل الافتراضي فضاء خارج منظومة القيم.

لا يتعلق الأمر بسلوك اجتماعي فردي يتخذ من جزء من الجسد طريقا سريعا نحو كسب المال، ويصنع حضانة له بنسب المشاهدة، وإنما الأمر له علاقة بتبعات هذا المحتوى وانعكاساته السلبية على المجتمع والثقافة والشخصية والمرأة والأسرة والمستقبل. فالروتين اليومي بطريقة استخدامه يلعب دورا سلبيا في تسويق الشخصية المجتمعية التي تحولت إلى قوة ناعمة.

يحتاج الأمر إذن، إلى انخراط العلوم الإنسانية وتحليل خطاب هذه الظاهرة، ودراستها، وتبيان مخاطرها في الانزياح بالمجتمع نحو لعبة الافتراضي المفتوح على كل الاحتمالات.