قضايا

مستلزمات تجديد المدرسة المغربية

عبد الرحمان زيطان

تُطلق كلمة المدرسة عند الحديث عن منظومة التربية والتكوين باعتبارها بنية متعددة المكونات والعناصر المترابطة والمتكاملة والمتفاعلة؛ وتطلق، كذلك، عند الحديث عن النظام التربوي بصفته نظاما حاملا ومترجما للمشروع المجتمعي. كما تطلق عند الحديث عن مؤسسة للتربية والتكوين مختصة في تقديم خدمات التربية والتكوين للأطفال والشباب.

وما أقصده، في هذا المقام، هو المدرسة بصفتها نواة هذه المنظومة وبؤرتها المركزية ومرآتها العاكسة. وبصفتها تكثيفا لهذا النظام ولنوعية العلاقات الاجتماعية التي يكرسها، وأشكال السلطة التي يصونها. وبصفتها مجالا سوسيو- تروبويا لتصريف الاختيارات الاستراتيجية من أجل بناء مواطنات ومواطني الغد. وبصفتها مؤسسة نظامية متعددة الوظائف والمهام، ومجتمعا مصغرا لاستبطان القيم واكتساب قواعد العيش المشترك. وبصفتها، كذلك، فضاء ماديا يقدم خدمات تربوية وتعليمية وتكوينية بهدف تنمية وتطوير كفايات روادها وتربيتهم على القيم وعلى الاختيار، من أجل التأهيل الدراسي والمهني والاجتماعي.

ومن ثمة، فالمدرسة هي ذلك الكائن المجتمعي الحي المتفاعل مع باقي الكائنات المجتمعية، وباقي المنظومات والأنظمة الحية، التي تتغذى جميعها من سيرورة التفاعلات القائمة بين بنية الدولة وبنية المجتمع، وعلى رأسها النظام السياسي والاقتصادي والثقافي. لكن، ما يستوجب التأكيد عليه ها هنا، هو أن منظومة التربوية والتكوين منظومة مغذية وداعمة لباقي المنظومات. تنتج أدوات صيانة منظومة القيم، وتحصّن لحمة الانتماء إلى الوطن والتشبث بالهوية والمقدسات الوطنية. كما تنتج قطع غيار قاطرة التحولات الاستراتيجية وقاطرة التنمية البشرية المستدامة. لذلك، فالمدرسة كيان مؤسساتي يتشكل في ظل سيرورة التاريخ المركبة، وفي سياق المجتمع وتعدّ واحدة من أهم مؤسساته المختصة في التنشئة، كما تتشكل في ظل تطور حاجات الدولة والمجتمع وآفاق تفاعلاتهما المستقبلية.

المدرسة، إذن، تعد، من زاوية أولى، منتوجا تاريخيا تستمد طبيعتها مما تراكم لديها من تجارب بصفتها المطلقة أو الخاصة، نتيجة تفاعلاتها الداخلية وتفاعلاتها مع محيطها. ومن ثمة، فهي تتجدد وتتطور وفق سنن وفلسفة التاريخ. إنها سلسلة من التجارب والممارسات التي قد تأخذ خطا تصاعديا، كما قد تأخذ خطا تنازليا. لذلك، لا يمكن فهم ما تعيشه المدرسة المغربية وتحياه اليوم، إن على مستوى الأداء الإداري أو على المستوى الممارسة التربوية إلا باستدعاء هذا التاريخ ولو في بعضٍ من محطاته الدالة والمفيدة، للوقوف على حقيقة هذه المدرسة، كيف كانت، وكيف سارت، وكيف صارت، من حيث نوعية الممارسات التدبيرية، أومن حيث عدد المستفيدين من خدماتها، أومن حيث نوعية المنتوج الذي تحققه، أو في علاقتها بالنموذج التنموي السائد، أو من حيث موقعها في المشروع المجتمعي ككل.

ومن زاوية ثانية، فإن المدرسة المغربية تعد منتوجا مجتمعيا وليس منتوجا قطاعيا، فمسألة التعبئة المجتمعية المستدامة التي أفردت لها، سابقا، لجنة الميثاق الوطني للتربية والتكوين في قسمه الأول المواد 20 و21 و22 و23، وأفرد لها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في رؤيته الاستراتيجية لإصلاح المنظومة (2015-2030) الرافعة الثانية والعشرين، المواد من 112 إلى 130، تؤكد على أن قضية التربية والتكوين ليست قضية قطاع، ولكنها قضية كل القطاعات، إنها مجال التقائية السياسات العمومية. وأنه، سواء تحدثنا عن النظام التربوي في علاقة بالمشروع المجتمعي والاختيارات الاستراتيجية في قطاع التربوية والتكوين، أو تحدثنا عن منظومة التربية والتكوين باعتبارها بنية ومكونات متفاعلة ومترابطة بدءا بمستوى إنتاج الاختيارات إلى مستوى تفعيل وإنجاز الأنشطة البيداغوجية والوضعيات في رحاب الفضاء المدرسي، فإننا نتحدث عن قضية ترتبط بالنسق المجتمعي العام، تتأثر بكل ما يعتمل داخل هذا المجتمع، في ارتباط بالأنساق والفئات الاجتماعية وبأنماط العلاقات السائدة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا.

أما من زاوية ثالثة، فإن المدرسة المغربية، كغيرها في باقي دول المعمور، تعد منتوجا للمستقبل، تعمل اليوم بما يتاح لها من إمكانيات، وما يوضع لها من اختيارات وتوجيهات، وما يوفر لها من موارد، من أجل بناء مجتمع الغد. ولا يمكن قراءة وتفسير مؤشرات التقييمات الآنية التي تخضع لها هذه المدرسة، من داخلها أو من خارجها، إلا في ارتباط بما تلبيه من حاجات الدولة والمجتمع من الكفاءات والخبرات والمؤهلات القادرة على المساهمة في تقدم البلاد وازدهارها، ومن حاجات الاقتصاد المتمثلة في قدرته على دعم الاستثمار والإنتاجية وتوفير فرص الشغل الملائمة وتطور الدخل الفردي والقومي، ومن حاجات السياسة المتمثلة في تأهيل المواطنات والمواطنين للمساهمة في تدبير الشأن العام ودعم الخيار الديموقراطي التمثيلي والتشاركي، ومن حاجات المجتمع الأساسية المتمثلة في الأمن الروحي والقيمي والثقافي والحضاري والحقوقي والعلمي وما إلى ذلك.

تعيش المدرسة المغربية اليوم أوراشا تجديدية بنيوية لا يمكن لمتتبع(ة) أن ينكرها مهما كانت مرجعياته وخلفياته. وأن تحصين الرؤية الاستراتيجية (2015-2030) بالقانون الإطار 51.17 المتعلق بالتربية والتكوين والبحث العلمي، يُعدّ نقلة نوعية غير مسبوقة في تاريخ الإصلاحات التربوية التي عرفتها منظومة التربية والتكوين منذ الاستقلال، رغم تعددها وكثرتها. وأن سيرورة تفعيل أحكام هذا القانون وتنفيذ مقتضياته لا شك أنها ستحدث فارقا نوعيا في منظومة التربية والتكوين. وأن المأمول هو أن يُصيب هذا الفارق نواة هذه المنظومة وبؤرتها المركزية الا وهي المدرسة المغربية في مقارباتها وآلياتها التدبيرية، وفي حياتها المدرسية اليومية، وفي فصولها الدراسية، وفي منتوجها التربوي ومردوديتها، وفي علاقتها بمحيطها السوسيو- اقتصادي.

من الرؤية الاستراتيجية إلى المقاربات التدبيرية:

مرت ست سنوات على تعميم المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي رؤيته الاستراتيجية (2015-2030)، ولا يفصلنا عن المدى الزمني المخصص لتفعيل هذه الرؤية وإرساء مقومات المدرسة الجديدة، كما تصورتها هذه الرؤية، إلا حوالي تسع سنوات، بما يعني أن 40% من هذا المدى قد استهلك. وهو ما يعطي الشرعية لسؤال افتحاص طبيعة السيرورة والمآل.

أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في إطار مواكبته لسيرورة تفعيل مقتضيات إصلاح منظومة التربية والتكوين وثيقة إطار الأداء لتتبع الرؤية الاستراتيجية في أفق 2030 على المستوى الوطني (2015-2018)، وأكد في معرض ديباجة هذه الوثيقة أن “المؤشر الوطني لتنمية التربية بلغ %53.5 سنة 2018، أي بزيادة 2.3 نقطة مقارنة مع سنة 2015”. وأن “التقدم المحرز في التربية ما يزال خجولا، والطريق لا يزال طويلا.

وبالنظر إلى الإيقاع الذي تتقدم به التربية في بلادنا حاليا، يمكن القول إن المغرب لن يحقق الأهداف المتوخاة سنة 2030. وحتى إذا افترضنا أنه سيحرز تقدما خطيا قدره 2.5 نقطة كل ثلاث سنوات، فإن أقصى ما يمكن تحقيقه سنة 2030 هو قيمة %63.5 فقط، أي أقل من ثلثي الأهداف الاستراتيجية للرؤية”. كما أكد هذا الإطار بأن التقدم الحاصل في المؤشر الوطني لتنمية التربية سجل ارتفاعا أكثر في البعد المتعلق بالإنصاف بينما بقي البعد المتعلق بالجودة دون المستوى المطلوب إذ بلغ فقط %48.3 أما البعد المتعلق بالارتقاء فهو أيضا لم يتجاوز %49.3.

في السياق نفسه، ترى مجموعة البنك الدولي في تقريرها “المغرب في أفق 2040 ” أنه يجب “وضع التربية في صلب التنمية، لكي يكون الإصلاح التربوي فعالا، ويجب أن يتحلى بالواقعية والالتقائية. وهكذا ينبغي للمغرب أن يهتم بشكل أولوي بالإكراهات الرئيسية في إطار معالجة بالصدمات ترمي إلى إحداث معجزة تربوية، بمعنى تحقيق تحسن كبير للغاية في مستوى التلاميذ المغاربة، وهذا يستدعي تحديث النظام البيئي التربوي برمته وتحسين اختيار وتكوين المدرسين وتبني حكامة جديدة للمدرسة العمومية، وتطوير عرض تربوي بديل، وتشجيع مهارات القرن الحادي والعشرين بما في ذلك توسيع استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال في المدارس”.

من أجل إرساء تعاقد مجتمعي لإنجاح التعبئة الوطنية المنشودة لتجديد المدرسة المغربية تم تفعيل مقتضيات المادة 129 من الرؤية الاستراتيجية التي دعت إلى صياغة هذه الرؤية في قانون إطار “يصادق عليه البرلمان، ويتخذ بمثابة تعاقد وطني يلزم الجميع بتفعيل مقتضياته وتطبيقه والمتابعة المنتظمة لمساراته”. تمت المصادقة على القانون الإطار 51.17 بالفعل في 09 غشت 2019، من أجل “إرساء مدرسة جديدة مفتوحة أمام الجميع، تتوخى تأهيل الرأسمال البشري، مستندة إلى ركيزتي المساواة وتكافؤ الفرص من جهة، والجودة للجميع من جهة أخرى، بغية تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في الارتقاء بالفرد وتقدم المجتمع”.

في إطار مواكبة سيرورة تفعيل هذه الرؤية اعتمدت الوزارة الوصية على القطاع ومن خلالها الحكومة مقاربة العمل بالتدابير ذات الأولوية (2015). ثم مقاربة التدبير بالمشاريع المندمجة (حافظة المشاريع 2016). ثم مشاريع البرنامج الملتزم به أمام صاحب الجلالة (المذكرة 20.19 الصادرة في 12 فبراير 2019). ثم بعد المصادقة على القانون الإطار اعتمدت مقاربة التدبير بمشاريع تنفيذ أحكام القانون الإطار من خلال المذكرة الوزارية رقم 047.20 بتاريخ 18 شتنبر 2020، والتي تضمنت تحديدا دقيقا لهذه المشاريع، مرفقة بالإطار المنطقي لكل مشروع، يضمن الأهداف والنتائج المتوخاة والتدابير والعمليات وكذا المؤشرات والمخاطر المحتملة. ورامت إحداث بنيات وظيفية لتدبير هذه المشاريع، إن على المستوى المركزي أو الجهوي أو الإقليمي.

استندت في ذلك على مقاربة دامجة محتضنة من طرف البنيات الإدارية القائمة. واعتمدت منطق التشبيك والعمل بالفريق والتعاقد والالتزام والمسؤولية. وقد جاءت هذه المشاريع منتظمة في ثلاثة مجالات على الشكل التالي:

مجال الإنصاف وتكافؤ الفرص ويتضمن سبعة مشاريع؛

مجال الارتقاء بجودة التربية والتكوين ويتضمن سبعة مشاريع؛

مجال الحكامة والتعبئة ويتضمن أربعة مشاريع.

مستلزمات تجديد المدرسة المغربية:

في مقال سابق حول “مشكلة المدرسة المغربية اليوم”، أكدت على أن مشكلة المدرسة المغربية تكمن “في حكامة المنظومة وريادتها، وفي تحصين المدرسة المغربية وتحصين اختياراتها، وفي تأهيل بنياتها الإدارية والتربوية من أجل إرساء نموذج الثقة المجتمعية في المدرسة وفي قدراتها”. لذلك، وانسجاما مع هذه الخلاصة أعتقد أن تجديد المدرسة المغربية، له مستلزمات. منها، في اعتقادنا، ما يلي:

أولا: وجود إرادة سياسية سيادية تجعل قضية التربية والتكوين في صلب المشروع المجتمعي. وهي متوفرة بدءا بالفصل 31 من دستور المملكة لسنة 2011، “تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في (…) الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة وفي التنشئة على التشبث بالهوية المغربية، والثوابت الوطنية الراسخة وفي التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية”. ومن خلال المادة 32 التي أقرت “التعليم الأساسي حقا للطفل وواجبا على الأسرة والدولة”. وتوفرت، كذلك، منذ الخطابين الملكيين الساميين في 20 غشت 2012 و20 غشت 2013 عندما وضع جلالة الملك خارطة طريق لتقييم حالة منظومة التربية والتكوين وتدقيق الاختيارات التربوية الاستراتيجية، الضامنة للتكامل والانسجام بين جودة النموذج البيداغوجي المتجدد وفعالية النموذج التنموي المأمول.

ثانيا: اختيارات تربوية استراتيجية متوافق حولها، وقد توفرت منذ إقرار الميثاق الوطني للتربية والتكوين في سنة 1999 فشكّل الجواب الممكن والأصيل في سياقه عن سؤال تجديد المدرسة المغربية إذ حدد لها هوية أصيلة. وأُسند هذا الميثاق برؤية استراتيجية أنتجها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في سنة 2015 باعتباره مؤسسة دستورية استشارية مختصة، وسعى من خلالها إلى تحيين الجواب عن سؤال تجديد المدرسة المغربية، عن طريق ربط هوية هذه المدرسة بهوية المشروع المجتمعي واختياراته الاستراتيجية ومقومات النموذج التنموي البديل، الذي يستجيب لتطلعات الدولة والمجتمع في الراهن المغربي والمستقبل.

ثالثا: قانون إطار ملزم يجعل قضية التربية والتكوين قضية ذات أولوية، يوجّه السياسيات العمومية في هذا المجال، ويقيد الحكومات المتعاقبة، ويصون الاختيارات، ويرصّد المكتسبات. وقد توفر منذ سنة 2019. وما تنتظره المدرسة المغربية، اليوم، هو الإسراع في تفعيل أحكام هذا القانون فتتحول إلى قوانين تنظيمية وتدابير وعمليات واضحة وفعالة ومستجيبة للحاجات الأساسية للتجديد في مجالات الإنصاف والجودة والحكامة على حد سواء.

رابعا: موارد مالية كافية، وهي متوفرة إذا ما حظيت قضيت التربية والتكوين بالأولوية التي تستحقها. لقد تنوعت مصادر التمويل والدعم سواء في إطار الاعتمادات والحسابات الوطنية أو في إطار برامج التعاون الدولي المجالية، والمأمول هو أن تُنفق هذه الموارد وفق قواعد الحكامة الرشيدة والأولويات والمتطلبات الحقيقية حتى لا يصيبها ما أصاب اعتمادات مشاريع البرنامج الاستعجالي، مع الحرص على تعزيز الخبرات الوطنية والجهوية والمحلية واستثمارها في إطار تعبئة مجتمعية، والانفتاح على الإمكانيات المحلية والجمعيات الشريكة المستعدة لدعم القدرات والمبادرات وتعزيز الجهود النوعية.

خامسا: خطة وطنية للتعبئة المجتمعية حول المدرسة، كما دعت إلى ذلك الرؤية الاستراتيجية، وهي في طريقها للتبلور في إطار تفعيل المشروع 17 من مشاريع تنفيذ أحكام القانون الإطار، وتحتاج إلى الحكامة وآليات للمواكبة والتتبع والتقييم لضمان الفعالية والاستمرارية وكسب رهان الثقة المجتمعية. خطة تقوم على ثلاث دعامات أولها: تعبئة مختلف الفاعلين من خلال إرساء آليات للتفاعل السلس والمفيد بين المدرسة وشركائها المحليين، وثانيها تعبئة الموارد البشرية المنتمية إلى قطاع التربية والتكوين بالتأهيل عبر مختلف آليات التكوين (التكوين الأساس – التكوين التأهيلي – التكوين المستمر- التكوين بالمصاحبة – التكوين عبر الممارسة)، وتحفيزها عن طريق خلق آليات جديدة للاعتراف والتكريم والتحفيز والترقية المهنية لضمان الانخراط الفعلي بكل إيجابية وفعالية. وثالثها تعبئة إعلامية وتواصلية للتعريف بالممارسات الجيدة ودعم المبادرات الإيجابية وتسليط الضوء على التجارب المفيدة والقابلة للتقاسم، بدل السقوط في حالة إسهال من الروتينات المهنية اليومية التي قد لا تصنع سوى كائنات إعلامية من صور فاقدة للمعنى تحجب الممارسات الفعالة والجيدة.

سادسا: خطة وطنية لمواكبة إرساء آليات الحكامة التدبيرية وتدعيم البنيات الإدارية بالكفاءات والخبرة ومستلزمات قيادة التغيير بجميع مستويات تدبير المنظومة، وأساسا، على مستوى المديريات الإقليمية، لأنها المعنية بشكل مباشر بأجرة مختلف التدابير والعمليات. والمعنية في إطار مقاربة تدبير القرب وفق الخصوصيات الإقليمية والمحلية، والمعنية بإنتاج البدائل ومقترحات حلول ومباشرة التحديات وإكراهات التنزيل. كما أنها الأكثر احتكاكا بالجدار الممانع والمقاوم للتغيير، وأنها الأكثر تفاعلا مع محيط المدرسة المتنوع، كما أنها أداة نقل سيولة الأحكام والتوجيهات المركزية والجهوية نحو المؤسسة التعليمية. وهو ما يستوجب توفر هذه المديريات على خبرات وكفاءات من الموارد البشرية القادرة على القيام بهذا الدور المحوري على أحسن وجه لتفادي كل التسربات المحتملة، والتي قد تفرغ العديد من التدابير والعمليات من مضمونها الحقيقي ومن جوهرها التجديدي فتتحول إلى مجرد أرقام ومؤشرات وقيم عددية باردة لا قيمة نوعية لها.

سابعا: خطة وطنية لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وإحداث التحولات النوعية في تدبير منظومة التربية والتكوين وحكامتها، لأن تجديد المدرسة المغربية في المرحلة الراهنة يتطلب إنجاز تحول نوعي، ما دام التحول عمليات وليس مجرد أحداث. يحتاج إلى وقت، وإلى سيرورة من البناءات والتراكمات والترابطات والتفاعلات بين مختلف المكونات والعناصر. كما يحتاج إلى رصيد كاف من الثقة ومستلزماتها. والمدخل الأساس لتفعيل هذه الخطة الوطنية يتمثل في إطلاق برنامج وطني لتجديد البنيات الإدارية وكشف الاختلالات التدبيرية ومواجهة ثقافة الريع الإداري. لأن القانون الإطار ومن خلاله الرؤية الاستراتيجية يشكلان، في المرحلة الراهنة، مرجعية متقدمة للتجديد، وقوة دفع رباعية لإحداث التحولات المطلوبة وتسريع وتيرة تجويد المدرسة المغربية. إن فعل التجديد فعل للتغيير، وأن التغيير لا يكون منتجا وفعالا في حضرة الهشاشة الإدارية وتهميش الطاقات وقتل الكفاءات. إن منظومة التربية والتكوين تحتاج إلى كل أبنائها، وهي، من دون شك، تزخر بكفاءات عالية وخبرات وطنية وجهوية ومحلية قادرة على قيادة التغيير الذي تستحقها هذه المدرسة ويستحقه هذا المجتمع.

ثامنا: خطة وطنية استعجالية لتأهيل المرافق الإدارية والمؤسسات التعليمية والفضاءات البيداغوجية بالعتاد المعلوماتي الملائم للحاجات، وتعميم شبكة الأنترنيت على جميع مرافق التربية والتكوين إدارية كانت أو تربوية. لقد كشفت جائحة كوفيد، منذ مارس 2020، عن فوارق يصعب تقليصها في المدى القصير أو حتى المتوسط. وأصيبت شعارات كبرى مثل الإنصاف وتكافؤ الفرص في عمقها، ليس فقط في بلدنا ولكن في أغلبية بلدان المعمور، بل وحتى الدول المتقدمة، وإن كان بنسب متفاوتة. كما أن هذه الجائحة ساءلت المقاربات البيداغوجية المعتمدة وأنماط التعليم والتعلم واستمرارية التعلمات، وساءلت الزمن المدرسي وغلافه الأسبوعي والمضامين الدراسية والمحتويات. كما ساءلت التربية الوالدية وقدرة المجتمع على تلبية حاجات أطفاله وشبابه الآنية والمستقبلية. إن العالم يتجه نحو مستقبل لا يمكن التنبؤ بمساراته، فقد بدأ يتكلم رقميا، ويسير بإيقاع يصعب مسايرته، وينتج بدائل قد يصعب تملكها من طرف الدول التي يُقهر فيها البحث العلمي ويُهمّش. إن العالم يعيش فعلا إرهاصات ثورة ثقافية تقودها الحواسيب العملاقة، وثورة علائقية يقودها الذكاء الاصطناعي. وتحولات مجتمعية كبرى تقودها الآلة الإعلامية ومختبرات معالجة المعلومات وصناعة الذوق العام والرأي العام وما شابه ذلك.

تاسعا: خطة وطنية لتسريع وتيرة تفعيل الجهوية المتقدمة وتفعيل مقاربة تدبير القرب، حيث نص الفصل الأول من دستور المملكة المغربية لسنة 2011 على أن “التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة”، وأن اللاتمركز الإداري يعد تنظيما إداريا مواكبا للتنظيم الترابي اللامركزي للمملكة القائم على الجهوية المتقدمة، كما نصت على ذلك المادة الثالثة من المرسوم 2.17.618 الصادر في 26 دجنبر 2018 بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري. وأن غاية هذا التنظيم الإداري التوطين الترابي للسياسات العمومية والأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية والمجالية، لذلك، فإن استكمال مشروع نقل الاختصاصات إلى الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين ماليا وإداريا وتربويا هو شرط أول لتفعيل الجهوية المتقدمة. وأن تفعيل مقاربة تدبير القرب، إن على المستوى الإقليمي أو على مستوى المناطق التربوية أو جماعات الممارسات المهنية والمؤسسات التعليمية، شرط ثان. وعليه، فإن الأمر يتطلب في سياق تنفيذ أحكام القانون الإطار وخصوصا التدابير التي اعتمدها المشروع رقم 16 المتعلق بتطوير الحكامة ومأسسة الإطار التعاقدي العمل على بناء خطة وطنية مندمجة تستهدف تسريع وتيرة تعزيز استقلالية المؤسسات التعليمية من خلال دعامتين أساسيتين:

1- تحيين الإطار القانوني المنظم لمجالس المؤسسة وتفعيل الآليات المؤسساتية: حيث نقصد هنا الآليات المحدثة بموجب المرسوم رقم 2.02.376 الصادر في 17 يوليوز 2002 بمثابة النظام الأساسي الخاص بمؤسسات التربية والتعليم العمومي وهي مجالس المؤسسة باعتبارها وحدات تنظيمية مؤسساتية من خلالها يقوم المجتمع المدرسي بإنتاج قراراته والسهر على مواكبة تنفيذها وتقييمها. وهي إطارات تختلف من حيث الأدوار لكنها تحظى بنفس الأهمية والقيمة المؤسساتية. إذ لم يعد ممكنا للمدرسة المغربية اليوم أن تتحدث عن الحكامة إذا لم يتم تحيين الإطار القانوني لهذه المجالس، وتخصيص غلاف زمني ملائم لاشتغالها، ووضع آليات ضامنة لتفعيل أدوارها وتقييم أدائها.

إن إرساء الجهوية المتقدمة وتدبير القرب والحكامة الجيدة يستلزم تفعيل أدوار هذه المجالس في ضوء المهام التي حددها لها هذا المرسوم. وهي أدوار، أتمثلها في سياق تجديد المدرسة المغربية على الشكل التالي:

يعد مجلس التدبير إطارا مؤسساتيا يوفر مناسبات لاشتغال الحكامة الجيدة، من أجل قيادة المدرسة نحو التحسين المستمر وتلبية الحاجات وتنظيم العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع المدرسي. فيسهر على تجسير التواصل بين المدرسة ومحيطها وبين حاضر المدرسة ومستقبلها؛

يعد المجلس التربوي إطارا مؤسساتيا يقيم الجسور اللازمة بين مكونات المشروع التربوي المندمج للمؤسسة وعلى رأسها البرامج الدراسية وبرامج الارتقاء بالحياة المدرسية، في ظل خصوصيات المؤسسة من جهة، وخصوصيات الفئات المستهدفة من جهة ثانية، وخصوصيات المجال الذي تنتمي إليه المؤسسة من جهة ثالثة؛

تعد المجالس التعليمية إطارات مؤسساتية تعنى بتكييف وملاءمة المناهج الدراسية مع الحاجات والخصوصيات المحلية وخصوصيات جماعات التعلم بالفصول الدراسية. وهي بمثابة جماعات للممارسات المهنية للمدرسات والمدرسين التي من خلالها يتقاسمون التجارب ويفكرون في النواة الأساسية للمشروع التربوي للمؤسسة (مشروع الفصل الدراسي– مشروع المجموعة البؤرية – مشروع الفئة- المشروع الشخصي للمتعلم(ة)). كما أنها وحدات للبحث الديداكتيكي والبيداغوجي التدخلي المندمج الذي ينطلق من الحاجات الحقيقية لجماعات الفصول الدراسية من جهة، ومن خصوصيات فئة هيئة التدريس باعتماد معيار المادة الدراسية أو مجال من المجالات التنظيمية للمواد الدراسية من جهة ثانية (مجال اللغات – مجال العلوم والرياضيات – مجال الإنسانيات والتربية على المواطنة والسلوك المدني)؛

تعد مجالس الأقسام إطارات مؤسساتية يكمن دورها في المواكبة التربوية للمتعلمات والمتعلمين عبر مدخل المسارات الدراسية، من أجل رصد الاهتمامات والرغبات والقدرات واتخاذ القرارات الملائمة لتوجيه المتعلمات والمتعلمين نحو المسارات الدراسية الملائمة والمصادقة والإشهاد على مستوى درجة نماء الكفايات ومستوى التحكم في هذه الكفايات؛

وإلى جانب هذه الآليات المؤسساتية نجد آليات أخرى من قبيل:

المجالس التلاميذية التي تعد وحدات وظيفية تضمن فعالية المشاركة التلاميذية في صنع القرار التربوي بالمؤسسة والمشاركة في تنفيذه وتقييمه. كما أنها مختبر تفعيل التربية على المواطنة والسلوك المدني، والمجال الأنسب لاكتساب واستبطان المهارات الناعمة التي تدعم المتعلمات والمتعلمين في بناء مشاريعهم الشخصية وتربيهم على الاختيار، وتعزز لديهم صبيب الانتماء وتؤهلهم للمشاركة في تدبير الشأن العام من موقع التدبير (المجال السياسي) أو الترافع (المجال المدني).

الأندية المدرسية التي تعد وحدات تنظيمية مندمجة ومفتوحة لا تعترف بالتراتبية داخل المدرسة. وهي بمثابة تدبير معكوس على غرار الفصل المعكوس. يتحول فيها المتعلمات والمتعلمون إلى منتجي القرار بينما الأطر الإدارية والتربوية يتحولون إلى مواكبين. وهي وحدات لبناء التعلمات بمقاربات أخرى ودعمها بأنماط أخرى من الأنشطة وتوفير مناسبات أخرى لاشتغالها. كما أنها فضاءات مندمجة لترسيخ القيم والتربية على المواطنة والسلوك المدني واكتساب المهارات الحياتية التي لا يمكن أن ينجح الفصل الدراسي كبيئة للتعلم في إرسائها وترسيخها، مثل القدرة على أخذ الكلمة والتعبير عن الرأي واحترام الرأي الآخر والتفاوض والتسامح والتعاطف وحل مشكلات وتملك آليات الفكر النقدي وغيرها. وهي وحدات داعمة للإنصاف المدرسي لأنها لا توجد إلا حيث توجد رغبات المتعلمات والمتعلمين وميولاتهم وحاجاتهم.

الفصول الدراسية التي تعد في ضوء المقاربة بالكفايات وحدات تنظيمية مهمتها السهر الدقيق على إنماء الكفايات وفق معايير المستوى الدراسي ومعيار الحقل المعرفي/ المادة الدراسية ومعيار المسار الدراسي. وهي وحدة أساسية شبيهة بالوحدة المركزية في الحاسوب. لأنها تقوم بعملية المعالجة والتصفية وتصحيح التمثلات وتدبير التعلمات، وإطلاق شرارات البحث، وقياس آثار التعلم، وتوفير موارد التصديق والإشهاد على نماء الكفايات التي توضع رهن إشارة مجالس الأقسام لاستثمارها في توجيه وإعادة توجيه المتعلمات والمتعلمين وتبطيئ أو تسريع وتيرة انتقالهم من مستوى إلى آخر أو من سلك دراسي إلى آخر، أو من مسار إلى آخر، أو من مسلك إلى آخر، أو من شعبة إلى أخرى.

جمعية أمهات وآباء وأولياء التلاميذ التي تعد إطارا تنظيميا لتجسير التواصل بين المدرسة والأسرة، من أجل مواكبة المتعلمات والمتعلمين في مشاريعهم الشخصية والاندماج في الحياة المدرسية. مما يعني ضرورة إقامة مدرسة الأمهات والآباء التي دعت إلى إحداثها الرؤية الاستراتيجية من خلال تخصيص خدمات تربوية لفائدتهم في مجال التربية الوالدية وفي المجالات الصحية والبيئية والمهنية.

2- إرساء مشروع المؤسسة الدامج والمندمج. الذي يُعدّ الوعاء الضامن لالتقائية المبادرات والفعاليات، ومجالا لتفعيل مقاربة تدبير القرب وإرساء حكامة جيدة وتحسين الأداء والمؤشرات الاستراتيجية للمنظومة. لذلك فهو يعد خيارا استراتيجيا لتحسين مؤشري الجودة الشاملة والحكامة الرشيدة في مجال التربية والتكوين.

كثيرا ما نواجه عند الحديث عن مشروع المؤسسة بسؤال التمويل وقلة الإمكانيات وما إلى ذلك. لذا وجب التأكيد على أن مشروع المؤسسة ليس مقاولة. مشروع المؤسسة إطار منهجي لتدبير الشأن التربوي. وهو جملة ممارسات بيداغوجية لإنتاج الأفكار واستثمارها واكتساب مهارات واستبطانها واكتساب قواعد التفكير الجماعي والعيش المشترك وتفعيلها. مشروع المؤسسة لا يستمد وجوده وجودته من حجم الاعتمادات المالية التي توفر له، وإنما يستمدهما من كيفية بنائه وكيفية إرسائه والتعبئة لإنجاحه. مشروع المؤسسة يستند إلى كيفية تفعيل الإطارات المؤسساتية والوحدات التنظيمية التي سبقت الإشارة إليها وكيفية قيادتها من أجل تكاثف الجهود حول هدف واحد هو المشروع التربوي للمؤسسة. إن مشروع المؤسسة، على الأقل في صيغته الحالية، لا ينجز بنايات، ولا يشتري تجهيزات، ولكنه يبني وينتج أفكارا وحلولا جماعية للمشكلات التي يعانيها الوسط المدرسي ومجتمع التعلم وفق أولويات، يبني وينتج سيناريوهات بيداغوجية وأنشطة تربوية تدعم الإنصاف البيداغوجي وتقوي فرص النجاح أمام المتعلمات والمتعلمين وتجعل الحياة المدرسية حياة حقيقية، قادرة على رفع صبيب الانتماء للمؤسسة والشعور بالأمن والأمان. وقادرة على خلق فرص تملُّك واستبطان القيم وتكريس ثقافة الانفتاح والتكامل والعمل المشترك والتفكير الاستراتيجي، من أجل تدبير فعال للمدرسة في حاضرها ومن أجل تأهيل ملائم لرفع تحديات المستقبل.

خلاصة القول: إن مستقبل المدرسة المغربية لا ينتظر، ومستلزمات تجديدها كل لا يتجزأ. لذلك فالإرادة شرط، والتعبئة المجتمعية ضرورة، والتأهيل الشامل للموارد البشرية والبنيات دعامة أساسية، وربط النموذج البيداغوجي بالنموذج التنموي اختيار استراتيجي، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة تحصين لمستلزمات التجديد من أجل مدرسة مغربية مواطنة ومنصفة، مدرسة الجودة والارتقاء بالفرد والمجتمع.