رأي

عبد العزيز سعدي: "اِتّقِ الله!" في حِواراتنا

"اِتّق اللهَ يا هذا المسلم!"، بهذه العبارة تَوجّه إليّ شيخٌ ذو لحية مُشَعَّثة وعباءة قصيرة في إحدى مقصورات القطار أثناء سفري من القنيطرة إلى وجدة في نهار يوم من أيام رمضان. غاضني هذا التدخل المفاجئ من الشيخ الداعية رغم رغبتي الدائمة في تقوى الله ونيل رضاه، إذْ كان السياق يقتضي تجاوزَ إطار اللفظ إلى عمق المغزى. وبدأ يتضح القصدُ حين أضاف "وإذا ابتُلِيتم فاستتروا"؛ فقلت له: "عن أي بليّة تتحدث يا شيخ؟ ما بِيَدي كأس ماء معدني لا مشروب روحي، وهذه علبة عجائن لا معجون!" فردّ علَي: "أنا أتحدث عن انتهاكك حرمة رمضان واستفزازك مشاعر الصائمين؛ وإذا لم تستحي فافعل ما شئت!". ما استفزّني ليس الفقهُ المتشدد المطمور في عقله المُشمَّع بالأحمر، وإنما تهجمه علَيّ بالقول "اِتّق اللهَ!" باعتباره حامي الدين الذي يقوم بواجبه الشرعي المتمثل في النهي عن المنكر؛ فهذه العبارة كلمة حق أراد بها باطلا، هي بالنسبة له وسيلة هجوم مقَنّعة، ملغومة بالكثير من المغالطات (شخْصَنة، اِلتماس مشاعر، احتكام إلى سُلطة، إحراج زائف ...)، يوَظفها تسْفيها لموقف غيره؛ وليُعِيقَ إبطالَ مفعولها يُرْسِيها بالدعوة إلى الاستحياء والتستّر، مُمِعِنا في إخزاء خصمه وإضفاء الشرعية والقدسية على حُجته هو، فالآمِرُ بالتقوى لا يمكن إلا أن يكون من عباد الله المتّقِين؛ هكذا يلْتَحِف بالشرع لِشَيْطنة كل من يخالف نهجَه وإيهامِه أنه بالانقياد له يمْتَثل لأوامر الله ويجتنب نواهيه؛ وبمعارضته يُعتبر مستكبرا ومُتماديا في ضَلاله ومَعْنيا بالآية الكريمة} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ{. وَكمْ سمعتُ تلك العبارة من أفواه دُعاة ووُعّاظ بعد فشلهم في دغدغة العواطف واستمالة أشياع جُدُد باستعمال كل حِيَل الإقناع، وصارت مقدمةً لاتهام كلِّ عَصِيّ على الاستقطاب بإنكار السُّنة وجحد آيات القرآن والارتداد عن الدين. كما أن استعمال المنادَى "يا هذا المسلم" لمخاطبتي لم يكن بريئا في ذلك السياق، فالأرجح أنه قصَد "يا مَن يظن نفسَه مسلما" أو "إنْ كان هذا الأمر بالتقوى لا يعنيك، فأنت خارج دائرة الإسلام".

ذكّرَتْني هذه النازلةُ بِشيْخ يتطفل على الوعظ والإرشاد بمُحيط مسجد حيِّنا الهامشي، اعتاد التعبير عن رفضه واعتراضه على الغير بالقول:" سِرْ، الله يهديك"، للإيحاء أنه يتفرد بامتلاك الحقيقة المطلقة ويحْتل منزلة أقرب إلى الله تعالى، تُخوِّل له الدعاء لِعبد مُذْنب بالهداية إلى طريق رآه حقاً وأراد فرضَه على كل الناس. فقد كان يَبْني مغالطاته على أدعية مأثورة جارية على ألْسِنة المسلمين، أُورِدها في بعض سياقات استعمالها:

- "صارت المرأة تخرج للعمل  .....   نسأل الله العفو والعافية". 

- "لقد انتشر الغِناء في كل مكان .... اللهم رد بنا ردا جميلا".

- "أُغلِقَت المساجد بحجة انتشار الوباء ....  حسْبنا الله ونعم الوكيل".

- "سَلَفنا الصالح يقول إن الشمس تدور حول الأرض، وهؤلاء العقلانيون- والعياذ بالله - يزعمون أن الأرض هي التي تدور حول الشمس"؛ ويعقِّب بالقول المأثور "إن هذا العلمَ دينٌ فانظروا عَمّنْ تأخذون دينكم" مشيرا إلى نفْسه بكل فخر واعتزاز، وخاتما بالرجاء: "طُوبَى لِمن جعل اللهُ هدايةَ الناس على يديه".

وتَعَدى الأمرُ مجردَ المغالطة حين كان يردِّد مع بداية جائحة كورونا: "ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا"، في تلميح واضح إلى علاقة سَبَبِيّة جاهزة في فكر شيخي وغيره من التراثيين. فرغم أن هذا دعاءٌ بين العبد وخالِقه، كان يحرص على إسماعه لكل الناس، وكأنه يتبرأ منهم واصفا إياهم بالسفهاء الذين لا غيرة لهم على الدين والوطن، ويَدّعي ضِمنيا انتماءَه إلى فرقة ناجية حجزتْ لها مكانا في الجنة، وتِلْكُم نزعةٌ تكفيرية خالصة.

ومن المراوغات التي يُتقنها شيخي وشاع تداولها بين الناس لنجاحها في التصدي لكل حُجة سديدة، أنْ أمرَني يوما عندما جادلتُه في مسألة دُنيَوية بحْتَة: "قُل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!". وبما أني ألعنُ الشيطانَ كلما ذكرتُه دون انتظار إشارة من أحد، لمْ أستسِغ أمره في تلك اللحظة؛ فقد أشْعرني أني بِتشبّثي برأيي كنت إلى الشيطان أقرب ومن الله أبعد، وما عليّ إلا الخضوع انصياعا لا اقتناعا، بالتخلص من رأيٍ وسْوسَه لي الشيطان واتباعِ رأي مَن رضي الله عنه.

  لعلك عزيزي القارئ تعرضت لمواقف مشابهة، فتحسّسْتَ إيمانك بالله وتأكدْتَ بنفسك مِن تَعطّل مقياس الإيمان الذي ابتدعه فقهاء رفعوا مؤشر التطرف إلى مستوى غير مسبوق.