تحليل

خطاب زكاة الفطر بالمغرب: التأصيل والتأسيس

محمد أكعبور*

تمهيد :

كلما استجد ببلادنا مستجِد مما يخص العمل الديني تجد من يستبينه بعزم وجِد مستوضحا بالنصوص الشرعية التي يدعمها العمل والأداء ، وللعامة مستضيئا لقضاياها وإشكالاتها مستنيرا بما ورد عن النبي بشيرا ونذيرا .

ويعد العلماء الأساطين والأمراء السلاطين في مقدمة من تولّى حفظ الدين والشريعة من الزيغ والبديعة بالكلمة المنيعة مما يقي الناس انتحال العلم وبأس ابتذال الخطاب الديني ؛ وهكذا حال الأمة في بلاد المغرب بلدة طيبة ورب غفور وشعب شكور ووطن صبور وملك على الديني غيور ، وما حصل لأهلها - أهل المغرب-  إكراه ولا شد وما تحصل عنهم نزع ولا شذ ، ولكنه وسطية واعتدال واهتداء واقتداء .

هكذا عُرف عن المغرب الذي تقوى به الأداء العلمي وسبلُ تبليغه بمأسسة مشيخة العلماء بمبادرة من الحكماء حماية للدين وصيانة للشريعة .

ولا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ؛ وهو العمل عليه عهدا ووعدا حتى تقوم الساعة .

عرض ونقاش :

بجرد بسيط مما يستدعي المقام الرجوع إليه لاحقا من الفتاوى الرسمية الرامية إلى رفع الحرج والعنت الديني عن المغاربة مما يبين لهذه الأمة أمر دينها في زمن كثر فيه المتكلمون في الدين ؛ حتى أصبحنا أمام ما يمكن أن نصفه ب "الفتاوى المعلبة والمغلفة" وهي فتاوى مغشوشة طبعا حالما اعتبرناها (فتاوى) وإلا فإنما هي آراء تلزم أصحابها وحدهم ولا تلزم "الجماعة الكبرى" ومن اصطف خلفها والتف حولها .

وسنقف عند واحدة من أهم تلكم الفتاوى الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى الصادرة يوم :21 رمضان 1431هـ موافق فاتح شتنبر 2010م والتي حسم فيها الخلاف الفقهي الدائر عملا بالقاعدة الفقهية : حكم الحاكم يرفع الخلاف ؛ "حول مسألة إخراج زكاة الفطر بالقيمة نقدا" وهو العنوان الذي تحمله تلكم الفتوى .

هي إذن ؛ فتوى تأصيل وتأسيس ؛ تأصيل العمل بناء على النصوص وتأسيس العمل بناء على المقاصد والعلل لتخلص إلى الجواز في المختلَف فيه بإصدار الحكم الفقهي لإخراجها نقدا مما لم يعهده المغاربة في عرفهم الديني والاجتماعي في تاريخ الأدبيات الدينية ولكن مع التتالي الزمني والتلاقح الثقافي والحضاري وبروز قنوات ومسالك الإعلام الديني التي للأسف تمد إليها الأجياد وبالمغرب رجال العلم أسياد .

برزت الحاجة إلى توحيد الخطاب الديني الذي يعرض للمسألة المعروضة للنقاش انطلاقا من الحكم الشرعي بناء على الأيراد من النصوص ، وما يتحقق من مقاصد وعلل في مشروعية الدين والملل ، وحماية للأمة بالنصوص من اللصوص ؛ لصوص الشخصية الدينية ذات الفطرة السليمة التي لم ولن تضل يوما .

وإعمالا للقاعدة الفقهية : المشقة تجلب التيسير ؛  ومعها يُدفع عن الأمة التعسير مما يحصل من المشقة في الأداء ، أصدر المجلس العلمي الأعلى فتوى في الموضوع تجيز إخراج زكاة الفطر نقدا إلى جنب إخراجا صاعا مدا مدا ؛ والصاع أمداد به يتحصل المرء المقصد أسدادا ، يومه به ينتفع وفي الناس يرتفع وفي الطرقات والشارع والأزقة لا يندفع ، له عن الديار الميل بعد ما وفر للعيال الكيل في عزة وكرامة من غير طلب ملحاح ولكن تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم .

الهندسة المورفلوجية للفتوى :

إنها إذن ؛ مضامين الفتوى التاريخية في مسار الفتاوى الصادر عن المؤسسة العلمية ببلادنا التي تحتفظ بأدبيات الفتوى في الشريعة الإسلامية من كونها تضم استلزاما :

•          البسملة والحمدلة والتصلية.

•          ذكر بواعث سياق الإيراد.

•          جواب عن سؤال ورد على الهيأة العلمية المكلفة بالإفتاء من الكتابة العامة للمجلس العلمي الأعلى. ذلك أن الفتوى في الشريعة الإسلامية تطلب .

•          لازمة الدعاء بالرحمة والرشد بالعبارة القرآنية " ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ".

•          كتبت مختومة لصاحبها وصاحبها هنا "الجماعة " الأمة المغربية  التي تلقتها بالقبول وبنت عليها العمل الجديد المشرَّع بخصوص صدقة الفطر في البيئة المغربية التي تقبل تلقائيا التعايش الاجتماعي والتثاقف الفقهي مع الاحتفاظ بالعمل بأصول المذهب المالكي بكونها من الثوابت الدينية بالبلد .

•          عبارة التسليم لله وتنزيهه عن كل نقص مع إقرار قفل الفتوى بعلم الله على ما تخفي الصدور والتفويض له ؛ الأمر "و(هو) الله أعلم وأحكم، وهو سبحانه من وراء القصد، والهادي إلى كل رشاد وأقوم سبيل".

البنية العلمية للفتوى :

أولا: التأصيل الشرعي لزكاة الفطر وحكمتها في الإسلام.

مستعرضة مجمل النصوص التي عليها مدار العمل وهو الأصل الأصيل بالعمل المبني على التأصيل ، نصوص حديثية مفصِّلة للفريضة العينية الموسمية بعد تمهيد مؤسِّس للشعيرة في سياقها الزمني الفضيل مما ليس له نظير ولا مثيل "رعاها الخلف عن السلف وحافظ عليها جيلا بعد جيل " مما كان حكمه التواتر مما نقلته جماعة عن جماعة عِدال مما وقع عليه للجماعة إجماع وإسدال من غير زيغ ولا إبدال ، تقارير عنها فُضلى ورثتها جماعات مُثلى موضحة المسألة مسترشدة بالقول والعمل المسنون مع ذكر الحكم والمقدار والحكمة ومما منه تؤدى وإلى من تؤدى حتى لا يتأذى كما نطقت به النصوص الحديثية في تفصيل لقوله تعالى "قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى" .

ثانيا: مسألة إخراج زكاة الفطر بالقيمة نقودا.

مبدأ النقاش حولها مستنِد إلى "دلالة النصوص السنية على كيفية إخراجها بالطعام كيلا أو إلى الحكمة من تشريعها" فأوردت رأيين : كل منهما يستند إلى دليله المعتبر.

الرأي الأول :  استند إلى النص ؛ حيث أورد قائمة مما تخرج منه من غالب قوت أهل البلد ولكل بلد قوته الغالب وللمتزكي / المتصدق الخيار شرط الالتزام بالنص الذي أعمل في البلد فبلد المغرب تقريبا ينبت كَّل الأصناف المزروعة المخرَجة منها الزكاة ؛ صدقة الفطر والتي عرضت لها النصوص الحديثية وهذه من نعم الله على بلد المغرب كما له – المتزكي - الخيار كذلك بين الكيل (الْفْطْرَة) ؛ (وهو أربع حفنات باليد المتوسطة) وعليه العمل ؛ والوزن بحكم تطور التكنولوجيا المواكِب لتطور التجارة (الموازين الإليكترونية) بديلا لميزان اللسان والصناجات لكن المعتبر فيها هو المبدأ.

وإذ التزم المغاربة الأداء إعمالا للنص بالكيفية والصنف والوقت ؛ إنما هو من وجوه كثيرة :

•          المغاربة أكثر من التزم بالسنة القولية والعملية.

•          رغبة في تحصيل أجر مترتب عن بعض المشقة اليسيرة التي تلحق المرء .

•          إظهارها في الناس تعليما لهم خصوصا الأطفال والشباب وكلنا إلى عهد قريب حمل هذه الصدقة إلى أحد الأقارب أو الجيران وربما إلى أكثر من واحد ينصرف متمثلا للمسؤولية تدربا وتحت إشراف الجد أو الوالد أو الأخ الأكبر أو حتى بتوجيه من الأم "وذلك لكونها ....عبادة وقربة إلى الله تعالى، نص الشارع الحكيم على كيفية أدائها وبيَّنها ، وهي تنطوي على أسرار شرعية وفوائد اجتماعية ملحوظة ، فيجب إخراجها على تلك الكيفية المشروعة" مما يقتضي الحفاظ على شعيرتها بارزة وظاهرة في المجتمع على مر الزمان .

وتحصيلا لكل تلكم الأسرار الشرعية والفوائد الاجتماعية ؛ كان دأب المغاربة البحث عن الأفضل في الأداء وليس الجواز وحده الذي إنما تبرأ به الذمم .

 لذلك ؛ تجدهم أحرصَ ما يكونون على إخراجها قبل صلاة العيد وبعد صلاة الصبح وهو الوقت الأفضل عند السادة المالكية وهو الاختيار المغربي باعتباره ركيزة من ركائز منظومتهم الدينية منذ عهود خلت وقرون توالت.

ففي المقام الأول وهو العمل والإظهار مما يحصل للناس به الإعجاب والإبهار من خلال اختيار الفُضلى من الأوقات من خير الميقات المستند إلى النصوص التي عرضت للمسألة مما يغني عن إيرادات أخر من اختيارات واتجاهات وآراء فقهية هو الأصل عند أهل المغرب .

الرأي الثاني : "جواز إخراجها بالقيمة نقدا"

وهو الرأي الذي يأتي في المقام الثاني لاعتبارات يراها معقولة ومنضبطة يستند إلى الأثر وإلى مقصدين النص "وهو إغناء الفقراء والمساكين بها عن الطواف على الناس وسؤالهم ما يقتاتونه من طعام في ذلك اليوم، وإدخال السرور عليهم بها ، كما يدل له حديث: «أَغنوهم عن السؤال في هذا اليوم».

ومن خصائصه :

•          ضمان السهولة واليسر في الأداء مما قد يغيب معه الإظهار والإبراز بحيث سيصير إلى حكم الاعطيات الأخرى كزكاة النقد والعين والصدقةِ مما يتقى به القدر بأسا ويقضى بها على الفقر يأسا.

•          تحصيل الفائدة والنفع للمستحق " فيجوز له حينئذ إخراجها بالقيمة نقدا " مذكرا بحال من تعذر عليه إخراجها كما شرعت على أصلها فالمعتبر هو علة الحكم وهذه تدور معه وجودا وعدما .

•          ويفيد ذلك منطوقُ الفتوى "  كحالِ من تعذر عليه إخراجها كما شُرعت....."

 في استعراض لتلكم الأعذار المبيحة إخراجها قيمة مشتشرفا ومستشفا لمصلحة معتبرة شرعا مستحضرا مصلحة وطنية أو تضامنا إسلاميا أمره بيد ولي أمر الأمة وأن الذي جعل هذا الفريق يقرر إخراجها قيمة فهو "استنادا إلى حكمة مشروعيتها من إغناء الفقير والمسكين "وهذه تتحقق كذلك بالكيفية المشروعة في الوحي النبوي وعليه بنت هذه الفتوى التأصيل الشرعي لهذه القربة غير الساقطة بمضي زمنها وكذا ما يحصل من مع أدائها نقدا وقيمة من يسر ورفع حرج عن الناس باعتباره مبدأ أساسا في الشريعة بناء على الأصل وأن الدين الإسلامي دين يسر. وبعد عرض تلكم الآراء الفقهية المبنية على النصوص تأصيلا ، وفي الاجتهاد في إخراجها قيمة تأسيسا ؛ تدليلا وتفصيلا من استحضار المقصد المَرعي من تشريع الشرائع ، والعمل على أدائها وفق الصنائع مما قرره أهل العلم ؛ وهم للحق أحق وللقول أدق ، حماية للعمل الديني من البدائع "وعليه فيجوز إخراجها بالقيمة نقدا ".

وحدة وتوحيد:

من يوم صدور الفتوى موضوع اشتغال ؛ القراءة والمجلس العلمي الأعلى ملتزم بأداء أمانة التبليغ بحسن الأسلوب والقول البليغ بإصدار متم كل موسم رمضاني وثيقة علمية تحمل عنوان : " رأي المجلس في زكاة الفطر ومقدارها كيلا ونقدا " تأسيسا على تلكم الفتوى موحدا الرأي الفقهي في القيمة النقدية المخرجة بناء على التداول التجاري لأمنة الحبوب بالأسواق المغربية في الحواضر والقرى بالبلد في طوله وعرضه .

وهو توحيد للخطاب الديني الساعي إلى مواكبة المغاربة في الأداءات الشعائرية ؛ وثيقة يتعامل معها الإعلام المغربية بمختلف تشكلاته وأجناسه وهوياته وتخصصاته كما الإعلام الاجتماعي باعتبار الوثيقة العلمية مرجعا للمغاربة في الموضوع ينتظروها بكل حب وود مما يجعلهم في غنى عن كثير من القيل والقال في الموضوع مستجيبين لمشيخة العلماء بالوطن المستجيبة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم مصداقا لقول الله تعالى : (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل غليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته ) وهو الله القائل سبحانه : (شهد الله أنه لا غله إلا هو والملائكة والو العلم قائما بالقسط).

تمديدا :

خطاب زكاة الفطر : النقاش الذي لم يهدأ بعد إلا في المغرب منذ صدور فتوى المجلس العلمي الأعلى في الموضوع عام 2010  وتأسيسا عليه يَرِد كلَّ عام رأيُ المجلس في الموضوع تذكيرا للمواطنين الذين يسعدون بصدور ذلكم الرأي الفقهي السديد  ؛ مما يُرفع به عنهم العنت والحرج مؤصلا العمل على النص مجيزا البدل بجامع علة الحكم القاضي بصدور الحكم وحكم الحاكم يرفع الخلاف مما يحصل به الائتلاف والاتحاد والإيلاف .

* باحث في الخطاب والإعلام الديني