رأي

عادل بنحمزة: روح ماي 1968... توسيع مجال الممكنات

تخلّد فرنسا خلال هذا الشهر الذكرى الخمسين لانتفاضة ماي 1968، جريدة "لوموند" العريقة أنجزت قبل ثلاث سنوات عدداً خاصاً بهذه الذكرى تحت عنوان " 68.. الأيام التي هزت فرنسا"، "لوموند" اعتبرت بشكل استفهامي انتفاضة ماي 1968 بأنها شكلت هزة للوعي الجماعي للفرنسيين وأنها تعبير عن شباب فاقد لليوتوبيا والأمل، وأيضاً هي انتفاضة للمأجورين من موظفين وعمال ضد الاستغلال وضد مجتمع مجمد من قبل سلطة شاخت، كما أنها كذلك كانت طموحاً لإرضاء المتعة في حياة يومية يغلب عليها اللون الرمادي، وشكلت مطلباً ديموقراطياً لكي يتمكن كل مواطن؛ ليس فقط من التحدث بل وبالأساس ضرورة الاستماع إليه، لقد كانت باختصار ثورة لا تريد أن تستولي على السلطة... بل كما قال المفكر والفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، كانت توسيعاً لمجال الممكنات...

أحداث ماي 1968 ما زالت تعتبر ملهمة عدد كبير من التمردات عبر العالم، بدأت الأحداث بإضرابات عمالية استمرت منذ نهاية 1967 وبداية 1968، تمت مواجهة الحركة العمالية بحزم وعنف من قبل أجهزة الدولة، وعندما كان أرباب العمل والأجهزة الحكومية يعتقدون أن الطبقة العمالية قد تم إخضاعها، دخل على الخط طلبة الجامعات الذين كانوا ينطلقون من منطلقات إيديولوجية وسياسية أممية.

كان ديغول يقول: "لقد خلصت الى استنتاج مفاده أن السياسة هي مسألة خطيرة جداً أن تترك للسياسيين"، وكانت إنتفاضة ماي 1968 تجسيداً على الأرض لقناعة ديغول تلك...، لم تنجح وصفة القمع مع الطلبة وأدى إغلاق جامعة باريس في الثالث من مارس من نفس السنة، إلى تأجيج الحركة الاحتجاجية التي تميزت بلجوء الطلبة إلى العنف في مواجهة قوات الأمن من خلال نصب المتاريس ليلة التاسع والعاشر من ماي، كما تم احتلال الحي اللاتيني حيث استعملت زجاجات المولوتوف، وبذلك أصبحت الحركة الطالبية في طليعة الحركة الاحتجاجية وعمليا قائدتها... فرضت أساليب الطلبة على قوات الأمن اللجوء إلى أقسى أشكال القمع، هذا القمع ولد تعاظم التضامن والتعاطف مع حركة الطلاب، حيث قررت النقابات العمالية الدخول في إضرابات، تحولت إلى إضرابات لا محدودة مرفوقة بتنظيم تظاهرات ومسيرات يومية، نتج من هذه الدينامية فقدان القيادات النقابية سلطتها على قواعدها، وبذلك دخلت فرنسا حالة من العصيان المدني تطورت ككرة ثلج، وبدأت سلطة الدولة تتهاوى، إذ أصبحت كل القرارات التي تخص تموين باريس مثلاً، بيد القيادات العمالية، بل سيطرت حركة العمال والطلبة على مدينة نانت بكاملها..، جملة كانت فرنسا تسير إلى نقطة اللاعودة لولا وجود رجل بحكمة ودهاء وخبرة ديغول، الذي دعا إلى انتخابات برلمانية سابقة لأوانها وبالتالي وقف الأحداث، هذه الانتخابات التي نظمت في شهر يونيو 1968 عززت نتائجها موقع اليمين الجمهوري على حساب اليسار وبصفة بخاصة "الحزب الشيوعي" الذي تحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية السياسية عن الأحداث.

ديغول كان رجل دولة كبيراً يملك كاريزما قوية واحتراماً وسط الفرنسيين باختلاف توجهاتهم بالنظر إلى دوره الوطني في تحرير فرنسا من النازية، استطاع بخبرته وحكمته أن يمتص تداعيات أقوى حركة إجتماعية وسياسية شهدتها فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه بعد سنة واحدة من انتفاضة ماي كان ديغول مجبراً على التنحي عن موقع رئاسة الجمهورية وذلك عندما ربط الاستمرار في مهامه بتصويت الفرنسيين بالموافقة على مجموعة من الإصلاحات اقترحها، خسر ديغول الاستفتاء فبادر إلى تقديم استقالة من سطرين قال فيها "أعلن توقفي عن ممارسة مهامي رئيساً للجمهورية. يصبح هذا القرار نافذاً عند ظهر اليوم: 29 أبريل 1969".

في الحركات الاحتجاجية التي يعرفها العالم في السنوات الأخيرة من بيروت إلى ساوباولو مروراً بباريس مع حركة القمصان الصفر وغيرها من كبريات العواصم العالمية، هناك بعض من روح مايو 1968، حركة تتوسع يوماً بعد آخر وتشهد التحاقات جديدة، وكل يوم تتسع أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في المقابل هناك شركات وحكومات اختارت برعونة إهانة المواطنين والاستخفاف بهم وبوضع تشريعات تحد من دينامية الشارع الذي يواجه اليوم النيوليبرالية المتوحشة معزولاً عن السرديات الكبرى التي كانت تقدم أجوبة لكثير من القضايا التي تعرفها المجتمعات والتي أضحت اليوم، رهينة للمصارف والمؤسسات المالية والمجالس الإدارية للشركات المتعددة الجنسية التي تركد يومياً وراء الربح في إطار إقتصاد أصبح أشبه بلعبة قمار، بدل أن يكون إنتاجاً للثروة وتوزيعاً لها، لذلك فروح باريس 1968 لم تكن فقط حركة احتجاجية في شكل انتفاضة شعبية، بل كانت أكثر من ذلك، هبت للوعي حيث طرحت أسئلة عميقة على مفهوم الدولة ووظائفها وجعلت المسألة الاجتماعية في صلب الرهانات والسجالات السياسية حول دولة الرعاية، فهل تفرض جائحة كورونا العودة إلى روح ماي 68 من زاوية الاحتجاج فقط؟ أم أنها ستتجاوز ذلك إلى مستوى تقديم أجوبة بل وإعطاء الدولة أدواراً جديدة؟.

*مقال منشور في "النهار العربي"