تحليل

إلى جيرَانِنَا الأقرَبين في شَرْقِ المغرب وشَمَالِه.. مغربيّة الصّحرَاء في وثائق تاريخيّة إسبانيّة دامغة

محمّد محمّد خطّابي*

كان الباحث الجامعي الإسباني-الكطلاني الدكتور ( ماريانو أرّيباس بالاو) قد قدّم هذه الوثائق منذ بضع سنوات فى مداخلة له تحت عنوان :” وثائق حول كنارياس فى الأرشيف التاريخي الوطني قسم شؤون الدّولة، ملفّ رقم 3565 صندوق رقم 2 فى إطار الحوار التاريخي الكناري الأمريكي المذكور” .

ولهذه الوثائق التاريخية صلة وثقى بحادث جنوح سفينة الصّيد الكنارية (نويسترا سينيورا دي أنغوستياس)  Nuestra Señora de Angustias  أمام رأس بوجدور عام 1784 . وهكذا جاء فى كتاب” الحوار التاريخي الكناري- الأمريكي” ( قسم كنارياس وشمال غرب إفرقيا المجلّد الثالث ص “54” ضمن مجموعة من الوثائق التاريخية والمراسلات الرّسمية الإسبانية- الكنارية إعتراف واضح وصريح بسيادة المغرب على رأس بوجدور فى الصحراء الغربيّة ، وذلك على إثر جنوح مركب  صيد كناري عام 1784 قبالة السواحل المحاذية للصّحراء.

وجاء فى النصّ المتعلّق بهذا الموضوع حرفيّا ما يلي: ” فى أواخر شهر غشت من هذه السنة (يقصد 1784) بعد أن غادر مركب الصّيد الإسباني (نويسترا سينيورا دي أنغوستياس جزر الكناري وعلى متنه 27 صيّاداً من البحّارة الكنارييّن يتألّف منهم طاقم المركب متوجّها إلى السّواحل الإفريقية لجمع السّمك المجفّف والمملّح الذي يستعمل كغذاء لمعظم سكّان هذا الإقليم صادف هذا المركب سوء الطّالع حيث إرتطم بالشطّ فى شهر سبتمبر عند المكان المسمّى رأس بوجدور فى السّاحل الإفريقي العائد لملك المغرب(كذا) ولم ينجُ هذا المركب من قدره المحتوم ، كما لم يتمكّن التخلّص من النتائج التي ترتّبت عن هذا الحادث ” .

ويتّضح لنا من خلال هذه الوثائق كيف أنّ كلاّ من القنصل الإسباني فى المغرب (خوان مانويل غونساليس سالمون) ، والجنرال ( ماركيز دي برانثيفورتي) حاكم جزر الخالدات أبلغا رسميّا عن حادث الغرق الذي تعرّضت لها السفينة الآنفة الذكر إلى السيّد ( كوندي فلوريدا بلانكا) الوزير الأوّل الإسباني فى ذلك الإبّان معترفين جميعاً ضمنيّاً بما لا يترك مجالا للشكّ بسيادة عاهل المغرب على هذه المنطقة من الصّحراء الغربية على عهد ” السلطان المولى محمّد بن عبد الله ”. ( معروف عنه إهتمامه بالصّحراء المغربية الذي جدّد ولاية شيوخ قبائلها فى العديد من المناطق والجهات مثل واد نون، وأدرار، وماسّة ، والسّاقية الحمراء وسواها من المناطق الأخرى..)

وجاء فى هذه الرسالة كذلك:” ولقد بثّ هذا الحادث الرّعب والهلع فى ما يقرب من ثمانين شخصاً من بينهم نساء وآباء وأطفال ليس لهم من عائلٍ سوى هؤلاء البحّارة المنكوبين”. وتشير الرسالة كذلك: ” وفيما يلي قائمة هؤلاء الذين خلّفت نكبتهم أثراً بليغاً فى قلوب جميع وزراء (المستشارين) فى هذا المجلس الجزيري الذين طلبوا منّي أن أخبركم بهذا الأمر والذي أنفّذه وأنا أشعر بنفس مشاعر الأسى والحزن، واعزي فى ذلك أيضاً هو ما نسعى إليه من تطوير وتنمية لقطاع الصّيد البحري” . ويضيف الحاكم العسكري الجنرال ( ماركيز دي برانثيفورتي) فى رسالته إلى الوزير الاوّل الإسباني قائلا:”وأرجو من معاليكم التفضّل بإشعار جلالة الملك حتى يطالب عاهل المغرب بعودة هؤلاء الأشخاص لتعمّ السكينة قلوبهم وأهاليهم وذويهم نظراً لما جبل عليه جلالته من شفقة فطرية” (هناك نسختان من هذه الرسالة ضمن الرّزمة المذكورة).

ويخبر القنصل الإسباني فى المغرب ” خوان مانويل غونساليس سالمون ”  في هذا السياق كذلك كذلك الوزير الأوّل”كوندي دي فلوريدا بلانكا” بتاريخ 18 ديسمبر من نفس السنة مشيراً:” أنّه فى السابع من نفس هذا الشهر كان قد كتب إلى ملك المغرب حول مسألة أل 27 بحّاراً كنارياً الذين جنحت سفينتهم فى المنطقة الآنفة الذكر” ويعود تاريخ جواب الوزير الأوّل الإسباني ” كوندي دي فلوريدا بلانكا” عن رسالة المركيز” برانثيفورتي” إلى 25 يناير 1785 وقد جاء فيها ما يلي :” جوابا على رسالتكم فى 3 نوفمبر التي تتعرّض لنكبة المركب الكناري “نويسترا سينيورا دي لاس أنغوستياس” الذي كان قد غادر جزيرة ” غران كناريا” فى نهاية شهر غشت والذي إرتطم فى رأس بوجدور قبالة السواحل الإفريقية يمكنني القول أنّ قنصل صاحب الجلالة فى طنجة “دون خوان مانويل سالمون” هو على علم بهذا الحدث ، وقد حاول التعرّف بشتّى الوسائل على مكان تواجد ألسبعة والعشرين بحّاراً الذين كانوا على ظهر المركب الإسباني المنكوب، وقد علم فيما بعد أنّهم يوجدون فى أماكن غير بعيدة عن مكان الحادث تقع بعضها تحت سيطرة مولاي عبد الرّحمن نجل ملك المغرب الذي كان يرفض الإنصياع لنفوذ والده (كذا)، كما تقع أماكن أخرى تحت هيمنة بعض الخواص من سكّان المنطقة ، كما كان يوجد بعض هؤلاء فى أماكن مُوغلة فى الصحراء”.

وتشير الرّسالة في هذا القبيل أنه حتى وإن لم يصل نفوذ عاهل المغرب بصفة مطلقة بعض الأماكن النائية ، إلاّ أنّه بهدف التوصّل إلى إطلاق سراح هؤلاء أل 27 بحّاراً فإنه كان لابدّ ولا مناص من مناشدة حماية العاهل المغربي ودعمه فى هذا القبيل حتى ولو إستدعى الأمر إستعمال عدّة وسائل أخرى غير مباشرة . وتؤكّد الرّسالة أنّ تلك كانت هي رغبة ملك إسبانيا رأفة بهؤلاء العاثري الطالع ، وإشفاقاً على عوائلهم وذويهم ، وقد أصدر تعليماته للقنصل المذكور لمتابعة هذا الموضوع عن كثب وبعناية خاصّة.

وبتاريخ 15 يناير 1785 يخبر القنصل الإسباني بمدينة طنجة “الكونت فلوريدا بلانكا” بما يلي: ” إنّه من نتائج الإتصالات التي أجريتها بتاريخ 7 ديسمبر الأخير لدى جلالة ملك المغرب حتى يعمل على تحرير هؤلاء أل 27 بحّاراً كناريا ً الذين كانوا فى حوزة عرب واد النّون والذين صادفهم سوء الحظّ وإرتطموا بذلك السّاحل ، فإنّ عاهل المغرب قد أجابني على ظهر نفس رسالتي أنّه قد أصدر أوامره لهذه الغاية وأنه بعد أن يصل هؤلاء إلى حضرته العليّة فإنّه سوف يعمل على إرسالهم لي”.

وفي تاريخ 23 فبراير يكتب الوزير الأوّل الإسباني الكونت فلوريدا بلانكا إلى المركيز دي برانثيفورتي الحاكم العسكري لجزر الكناري حول نفس الموضوع قائلا: ” تتضمّن النسخة المرفقة خبرا مفاده أنّ القنصل العام لملك المغرب قد أبلغني ضمن رسائله الأخيرة حول إطلاق سراح بعض الأسرى الكناريين الذين غرقت سفينتهم فى شهر نوفمبر فى تلك السّواحل ، والأمل فى أن يلتحقوا جميعهم بمنازلهم سالمين ، وإنه لمن دواعي سروري إبلاغكم بهذه الأخبار حتى تعملوا بدوركم على إبلاغها لمجلسكم ولسائر الأشخاص الذين يعنيهم الأمر”.

وبتاريخ 16 مارس يوجّه الجنرال الحاكم العام الكناري الرسالة التالية إلى الوزير الاوّل الإسباني الكونت فلوريدا بلانكا:” إنّ الخبر الذي تفضلتم معاليكم بإبلاغي إياه بتاريخ 25 يناير الأخير حول العناية الفائقة ، والمساعي الحميدة التي إضطلع بها قنصل صاحب الجلالة بمدينة طنجة بغاية العمل على إطلاق سراح أل 27 رجلاً الذين كان يتألّف منهم طاقم مركب ” نويسترا سينيورا دي أنغوستياس” الذي إرتطم فى رأس بوجدور الواقع على السّاحل الإفريقي العائد لملك المغرب(كذا)، كما أنّ الإهتمام البالغ الذي أبداه صاحب الجلالة الذي أصدر تعليماته ليحاط هذا الأمر بالعناية الخاصّة ، كلّ ذلك كان له أبلغ الأثر فى هذا الإقليم ، ونظراً للعطف الذي يشعر به جلالة الملك فى قلبه الطيّب فقد قمت بإبلاغ المجلس الجزيري ، وكذا عائلات هؤلاء المنكوبين بالأمر الملكي، وقد أكّد لي ممثّلهم فى هذه الجزيرة أنّ الدموع قد إنهمرت أمام الملأ فرحاً وإستهلالاً بهذا الأمر الملكي ، وقد صاحت الحناجر بالدّعاء له بطول عمره الغالي وهو ما يرجوه دائما من العليّ القدير جميع الذين يتشرّفون بخدمة جلالته فى هذه الجزر”.

وجاء فى هذه الوثائق :” وهكذا يتّضح لنا من خلال هذه الرسائل كيف أنّ مساعي القنصل الإسباني فى المغرب قد توّجت بالنجاح بفضل مساعدة ملك المغرب”. وتشير هذه الوثائق عرَضاً كيف أنّ مولاي عبد الرحمن نجل السلطان قد عاد إلى بلاط والده ليطلب منه الصّفح والغفران – حسب المصدر أعلاه- وقد أسهم هذا الحدث فى التوصّل إلى النهاية السّعيدة للبحّارة الكناريين “.

ونجد ضمن هذه الوثائق رسالة للقنصل الإسباني ” مانويل غونساليس سالمُون” موجّهة للوزير الأوّل الإسباني الكونت فلوريدا بلانكا جاء فيها:” أمس وصل إلى هذه المدينة (يقصد طنجة) سيدي الطّاهر عبد الله فنّيش الذي سلّم لي عشرة إسبانييّن من البحّارة الذين كانت قد غرقت سفينتهم قرب نهر النّون، وسوف أعمل على أن يبحروا على البارجة الوطنية التي توجد بهذا الخليج لشحن القمح إلى قادس” .

وتضيف نفس الرّسالة :” هؤلاء البحّارة يوجدون فى حالة جيّدة ، وهم يرتدون زيّاً متواضعاً ، وكان العاهل المغربي كما أخبرت معاليكم من قبل قد أمر بتنظيفهم عندما إستقدموهم إلى المغرب ، وأنه فى واد النّون لم يبق هناك سوى كناري واحد فى مقتبل العمر، حيث حكى لي هؤلاء البحّارة العائدون أنّه آثر البقاء والمكوث هناك بعد أن أرغمه مولاه على ذلك مهدّداً إيّاه “، إلى أن يقول:”وإنّه من الصّعوبة بمكان الآن إسترجاعه”.

ويشير القنصل الإسباني فى نفس الرسالة:” أنّ إثنين من هؤلاء البحّارة قد توفّيا هناك ، وأنه إذا أضيف الأربعة عشرة بحّارا الذين سبق أن سلّمنا إيّاهم صاحب الجلالة ملك المغرب يكون الحاصل 27 وهو مجموع الذين كانوا على ظهر المركب الكناري عندما ارتطم باليابسة فى ذلك المكان” .

وقد إستقيت جميع هذه الوثائق والمعلومات من كتاب” الحوار التاريخي الكناري- الأمريكي، قسم كنارياس، شمال غرب إفرقيا المجلّد الثالث(صفحة 54). وهكذا تؤكّد جميع هذه الوثائق التاريخية بما لا يترك مجالا للرّيبة والشكّ كيف أنّ الحكّام الكناريين والإسبان لم يجدوا بدّا منذ ذلك التاريخ المبكّر من مناشدة ملوك المغرب من أجل الإستغاثة وإسترجاع بحّارتهم، ممّا يثبت بشكل قاطع سيادة المغرب على إمتداد التاريخ على مختلف مناطق وأصقاع وسواحل الصّحراء المغربية.

هذه الوثائق التاريخية الإسبانية الرّسمية التي تعود لتاريخ 1784 تُضاف إلى العديد من الوثائق والمستندات التاريخية الأخرى، وإلى الفيض الهائل من المراجع، والمصادر، والمظانّ، والأغراض الأدبية، والنصوص، والرّحلات، والأسفار، والأشعار وسواها من المراجع التي لا حصر لها التي تكتسي أهمية بالغة فى تاريخ تلك المناطق من الأقاليم والأرباض والضواحي والتخوم الصّحراوية والتي تؤكّد ولا ريب مدى الوشائج، والأواصر، والصّلات  الروحية والبشرية الوثقى التي لا إنفصام لها لسكّان الأقاليم الجنوبية بالوطن الأمّ.

* كاتب من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا.

* * الوثائق المُدرجة ضمن هذا المقال تمّ ترجمتها من مصادرها الأصليّة من طرف صاحب المقال .