قضايا

تعميم البطالة في زمن الذكاء الاصطناعي

عادل بنحمزة

من نتائج جائحة كورونا التي تضرب العالم، التهديد الكبير الذي يضرب سوق العمل، حيث فقد ملايين الناس أعمالهم والتحقوا بصفوف البطالة، ومن المؤكد أن آثار الجائحة في سوق العمل ستستمر في قطاعات كثيرة لفترة طويلة حتى بعد رفع حالة الحجر الصحي والتخفيف من إجراءات التباعد الاجتماعي، هذا الوضع يشكل فرصة للانتباه الى أن التطور الذي عرفته الرأسمالية ومعها شكل الدولة والعلاقات الاجتماعية، يعرف اليوم حدوده القصوى في ما يصفه الاقتصادي المستقبلي الأميركي جيرمي ريفكن، بـ "نهاية الرأسمالية". هذه النهاية ليست من صنف الخطاب الأيديولوجي الذي نظر اليه فوكوياما في "نهاية التاريخ" قبل أن يقوم بمراجعته لاحقاً، بل هو طرح مناقض تماماً لطرح فوكوياما. فريفكن يعتبر أن الرأسمالية تعرف اليوم تطورا يؤدي إلى نهايتها الحتمية وبداية عهد نظام إقتصادي جديد يدشن عهد ما يسميه "المشاعات التعاونية" مع نهاية حقبة السوق، فالبحث المستمر للرأسمالي عن التكلفة الثابتة الصفرية بما يحقق زيادة في الإنتاج وفائضاً في الأرباح، لم يبق مجرد طموح يقوده عالم الربح، بل هو واقع اليوم بسبب الثورة التكنولوجيا التي قادت الرأسمالية إلى نجاحاتها الكبيرة بينما تقودها اليوم إلى نهايتها. كيف ذلك؟

الثورة التكنولوجية اليوم تقود إلى تحقيق قوة إنتاجية غير مسبوقة تنزل بالتكاليف إلى ما يقارب الصفر..ما سيجعل السلع والخدمات تقترب من المجانية أو ما يسميه ريفكن في كتاب مهم بالتكلفة الصفرية للإنتاج، متجاوزة بذلك المبادلة في إقتصاد السوق... هذا الأمر ليس فرضية نظرية، بل كما يؤكد جريمي ريفكن، هي واقع يعرفه العالم مع شبكة الأنترنت منذ 1990 إلى اليوم... حيث بدأت أولى آثار ظاهرة التكلفة الصفرية على صناعة الصحف والمجلات والإعلام بصفة عامة، إذ أصبح تدفق المعلومات والأخبار من دون مقابل، يصل اليوم إلى أزيد من 40 في المئة من سكان العالم ممن يملكون أجهزة الهاتف والحواسيب واللوحات الالكترونية، وهو ما عجل بإغلاق العديد من الصحف والمجالات سواء بصفة نهائية أم بتحولها إلى النت (الإندبندنت، مجلة النيويورك تايمز...)، وحتى محاولات بعضها إعادة منطق التبادل السوقي، عبر اعتماد دفع مسبق، فإنه في طريقه للفشل بحسب ريفكن دائماً، بل إن بعض قصص النجاح في هذا الإطار قد لا تصمد طويلاً، إذ بفضل تطور تكنولوجيا الاتصال، تحول ملايين البشر إلى منتجين ومبادلين للأخبار وللأعمال الموسيقية وغيرها...بحيث يمكن التوقف طويلا عند قصص نجاح كبيرة على "اليوتيوب" وباقي مواقع التواصل الاجتماعي.

لقد تجاوز الأمر في السنوات الأخيرة العالم الإفتراضي، ودخل العالم اليوم ما يسمى "أنترنت الأشياء" حيث السلع والبضائع الواقعية والطاقة وخدمات لوجيستية للنقل تتم عبر الأنترنت، فإندماج هذه العناصر مع بعضها بعضا، ومع شبكات الاستشعار المنتشرة في العالم وفي كل الفضاءات (الفنادق، المتاجر، المعامل، الطرق العامة، مراكز التخزين، محطات القطارات، محطات الطاقة، المدارس، الأجهزة المنزلية...) والتي تبلغ اليوم 13 مليار جهاز وستنتقل بحسب IBM إلى 30 مليار جهاز إستشعار حول العالم بعد 4 سنوات فقط، بل سيبلغ الأمر حسب IBM دائماً مئة تريليون جهاز في حدود 2030 (وإذا علمنا أن تريليوناً يساوي ألف مليار، فإن عدد هذه الأجهزة سيبلغ 100 ألف مليار جهاز)، سيشكل بحسب ريفكن، شبكة عصبية عظمة غير مسبوقة في التاريخ البشري وقد ظهر أثرها جلياً مع جائحة كورونا، سواء في المراقبة الأمنية أم في الخدمات الصحية.

هذا التغير في شكل الطاقة ووسائل النقل وتكنولوجيا الاتصال، يمثل بالنسبة الى ريفكن الأسس لتحول إقتصادي، فهو المهندس الرئيسي لما أسماه "الثورة الصناعية الثالثة"، والتي قدمها في كتابه الذي يحمل  الإسم نفسه، وقد اعتبر ان تلك الثورة تحمل إجابة عن تحديات الأزمة الاقتصادية العالمية، والأمن الطاقي والتغير المناخي.

والثورة الصناعية الثالثة من خلال سياق بحثه تقتضي أنها لاحقة لثورتين سابقتين، فقد وقعت الثورة الصناعية الأولى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكانت نتيجة اقتران ثلاث ظواهر هي: تطور الآلة البخارية، واستعمال الفحم باعتباره مصدراً للطاقة، وظهور السكة الحديدية باعتبارها وسيلة للتواصل، حيث ولّد تضافر عناصر هذا المركب الثلاثي اقتصاداً جديداً قام على النسيج والصناعات المعدنية. أما الثورة الصناعية الثانية، فقد حدثت في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت ثمرة تطور محرك الاحتراق الداخلي moteur à explosion، واستعمال البترول والكهرباء باعتبارهما مصدري الطاقة، واعتماد التلغراف والهاتف وسيلتي اتصال.

أطروحة جيريمي ريفكن بهذا الخصوص واضحة وبسيطة، فعندما يتم اكتشاف منظومة طاقية وتكنولوجيا اتصالات جديدة، يقع تحول جذري في الاقتصاد ومن ثم شبكة العلاقات القيمية والإنسانية، وبحسب ريفكن دائما، تتميز كل ثورة صناعية بآليات جديدة، ومصدر جديد للطاقة ونمط جديد من الاتصال، ولذلك فالثورة الصناعية الثالثة ليست إلا إقتران أنظمة الإعلاميات، باستخدام الطاقات المتجددة والشبكات الاجتماعية بإعتبارها وسائل الاتصال الجديدة.

بهذه الصورة يخلص ريفكن إلى أن العالم اليوم يدخل "ثورة اقتصادية" و"نموذجاً اقتصادياً جديداً" اصطلح عليه بالثورة الصناعية الثالثة والتي تمثل الأساس الذي شيدت عليه في السنوات القليلة الماضية الثورة الصناعية الرابعة التي يهيمن فيها الذكاء الاصطناعي، وهي ثورة ستفتح الباب واسعاً لما يسميه ريفكن في كتاب صدر قبل عشرين سنة بـ "نهاية العمل"، وهي مرحلة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني و حافلة بالتحديات و الفرص.

*المقال منشور في " النهار العربي"