تحليل

المشاعية النخبوية: من النخب الرمزية والمادية إلى النخب السائلة والعائمة

سعيد بنيس*

إن مقاربة الملامح العامة للنخبة المغربية يشكل مدخلا لفهم مختلف التحولات التي عرفتها هذه النخبة والتي اعتمدت في مراحلها الأولى على المثقفون ( المعلمون والأساتذة الباحثون والمحامون والأطباء والمهندسون …). وهذه الملامح كانت تشتغل من داخل كون الفكر النقدي أساس تقدم المجتمع و أن التنشئة المجتمعية على القيم الإيجابية هي الركيزة الفضلى لاسيما في علاقتها بالتنشئة على قيم المواطنة التي تدفع بالفرد إلى العمل على تميزه الشخصي والوطني.

كانت هذه هي السمات العامة للنخبة المثقفة لما بعد الاستقلال، سمات تنحو منحى يفيد بأن التميز الشخصي الفردي هو تميز للجماعة . فكانت مسارات المواطنة الجيدة والمواطنة الملتزمة هي التي تهم النخبة وكانت تشتغل على ترسيخها وتجذرها في المجتمع.

أما الآن فالاشتغال لدى النخبة الحالية أو ما يمكن بتسميتهم “النخب المادية” إذا سمحنا تجاوزا بهذا الوصف هو أن فعلهم الأساسي هو تمكين المواطن من تلبية حاجياته المادية والاقتصادية في كل ما يرتبط بمبدأ العيش الكريم. فيصير المشروع المجتمعي رهين إطار تنمية صلبة مع إرجاء جميع عناصر التنمية الناعمة. فالتنمية الصلبة ترتكز على توفير الحاجيات المادية كالشغل والمأكل والمسكن والنقل والمواد الحيوية والصحة… أما الحاجيات الرمزية مثل التعليم والثقافة والفكر النقدي والتداول والتشاور والتعبير المجتمعي الفردي والجماعي فقد صار بالنسبة للنخبة المادية الاقتصادية من الكماليات فحتى المطالب المجتمعية من قبيل المطالبة بالمناصفة أو إلغاء عقوبة الإعدام أو العنف ضد النساء مثلا تلبس لبوس “مطالب نخبوية” بالمعنى الضيق للمفهوم أي أن هناك نخبة وأقلية تعيش خارج السياق المجتمعي وهي التي تهمها هذه الإشكالات وهذه “الحاجيات” .

تجدر الإشارة في سياق الانتقال من نخبة رمزية إلى نخبة مادية إلى أن هناك فعليا إشكالات ومطالب مادية وحياتية فرضت أولويتها في الراهن المغربي لكن يبدو أنه في إطار استشراف مجتمع المعرفة ومجتمع المواطنة أضحت الحاجة ملحة إلى مزاوجة ومواكبة ماهو رمزي لما هو مادي وإلا سنتحول من مواطنين إلى فقط ساكنة تتعايش وتتساكن من خلال عقد اجتماعي مؤسس حصريا على تلبية حاجيات العيش والحياة المادية .

ومع الثورة الرقمية وغزو وسائل التواصل الاجتماعي لكل مناحي الحياة المجتمعية حدث تطور نوعي في حقل النخبة المغربية يتمثل في ظهور نخب تسكن العالم الافتراضي والتي أصبحت تأثر وتأطر وتفعل في محيطها. تتميز هذه النخب الجديدة بتنوع وتعدد أصولها الاجتماعية والثقافية ومهنها وتخصصاتها ومشاربها الإيديولوجية والسياسية، نخب يمكن توصيفها بالنخب “العائمة” أو النخب “المتصلة” أو النخب “السائلة”.

إذن فالتمييز القائم على ثنائية نخب رمزية ونخب مادية اقتصادية قد يصبح في خبر كان لا سيما أن هناك في البيئة الراهنة المغربية نخب صاعدة من عالم تناظري تتميز باتصاليتها وسيلانها وتموقعاتها المتموجة. وهذه النخب تتواجد وتنشط في الشبكات الافتراضية التي أضحت تتحكم في مستقبل ومصير المجتمعات بمعنى أن النخب الكلاسيكية سواء الرمزية منها أو المادية صارت متجاوزة في مقابل نخب جديدة تتواجد بشكل متواصل ودائم بل ترابط في شكل “إدمان نوعي” في العالم الافتراضي والتناظري . فهي ليست نخبا بالمفهوم الاصطلاحي الضيق لأن الجميع في العالم الافتراضي أفرادا كانوا أم مجموعات يتمثلون ويعتبرون ذواتهم كنخبة، فالجميع مثقف والجميع يمكن أن يناقش ويتداول وأن يكون له صوت ورأي وتأثير على قدم المساواة. فالعالم الأزرق خلق وأنتج معنى جديدا ونوعيا لمفهوم النخبة حيث تم تحييد دلالة التميز الرمزية (نخب رمزية) أو المادية (النخب المادية) وتعويضه بما أسميه “ديمقراطية نخبوية” أو “مشاعية نخبوية”.

فالجميع يناقش ويشارك برأيه في إشكالات الشأن العمومي على طريقته عبر نقل وتحويل القضايا والانشغالات المجتمعية سواء الثقافية أوالسياسية أو الاقتصادية أو المجتمعية أو القانونية للعالم الافتراضي لمناقشتها والتداول حولها تناظريا مما نتج عنه ضرب جديد من التعبئة السياسية والوعي المجتمعي أفضى إلى إعادة تسيس فئة من الشباب وكذلك التأثير في توجهات السياسات العمومية .

لهذا إذا جاز الحديث عن انتقال نخبوي فيمكن أن نقترح وتيرة وإيقاعا زمنيا أدى إلى الانتقال من نخبة رمزية إلى نخبة مادية ليرسو ويستقر في مرفأ نخبة متعددة المشارب تتعايش وترابط في العالم الافتراضي وتغير آرائها وأفكارها بحسب سرعة تناقل وتقاسم ومشاركة وتداول المعلومات الرقمية.

يمكن توصيف هذه النخبة من خلال مقولة السيلان “نخبة سائلة” من خلال صورة بلاغية تشبه تفاعلاتها وتحركاتها بجريان وحركية الماء في المنحدرات الحادة. ويظل السؤال في الحالة المغربية هو كالتالي : ما مدي تأثير وفاعلية المشاعية النخبوية من خلال حركية النخب العائمة والسائلة في روح ومنطق وآليات ومخرجات النموذج التنموي؟

* أستاذ العلوم الإجتماعية بجامعة محمد الخامس بالرباط