رأي

سعيد يقطين: الأطروحة الضخمة

أراد صاحبنا أن يقنعنا بوجهة نظره، ونحن نتناقش في مادة الفلسفة، في المرحلة الثانوية، فقال: قرأت في كتاب كبير! فانفجر الفصل بالضحك. لكنه تعجب من ردود الأفعال، وأكد: إنه فعلا كتاب ضخم. للكتاب الضخم سطوته وسلطته. فكلما ذكرنا كتابا قديما وعددنا المجلدات التي يضمها أكبرنا المجهود الذي بذل فيه، وقدرنا صاحبه. وحتى في وقتنا الراهن عندما يتحدث أحدهم عن مؤلفه يبدأ بذكر عدد صفحاته، لا ما يضمه من أفكار. وفي الأطاريح التي كنا ننجزها في النظام القديم كان عدد الصفحات مؤشرا إلى المجهودات التي قام بها الطالب مما يستوجب تزكيته وتثمينه.

يقول العرب القدامى: «من كثر كلامه، كثر سقطه». ويلخص ابن المقفع البلاغة في كلمة واحدة هي الإيجاز. لذلك لا يمكننا اعتبار التطويل والتضخيم دليلا على قيمة الكتاب. كما أن الإيجاز حين يكون مخلا يغدو بلا فائدة. عندما أقارن بين التقليد الفرنسي في إنجاز الأطاريح، والتقليد الأنكلو أمريكي أجد فرقا كبيرا. وما أزال بين الفنية والأخرى حين أحمل، الآن، بعض الأطاريح الفرنسية أجد عدد صفحاتها يتجاوز الخمسمئة، وإن بشكل مختلف عما لدى طلبتنا. هذا التقليد الفرنسي سرنا عليه في المغرب، لأن نظام الرسائل والأطاريح كان مختلفا عن نظيره الأمريكي، سواء من حيث عدد السنوات، أو نوع الشهادة. فشهادة الفلسفة ليست هي دكتوراه الدولة، كما أن الماجستير ليست دبلوم الدراسات العليا. كان دبلوم الدراسات العليا ودكتوراه الدولة في النظام الفرنسي والمغربي غير محدد بوقت معين، فمتى انتهى الباحث من إعداد أطروحته قدمها للمناقشة، ولا شك في أن سنوات كثيرة من العمر قد انصرمت في البحث والكتابة. عندما انتهت مناقشة أطروحة الشاعر أحمد المجاطي وأعطيت له الكلمة للرد، اكتفى بالقول بأنه سيستفيد من الملاحظات بعد التقاعد!

تطلب مني إنجاز دبلوم الدراسات العليا (تحليل الخطاب الروائي وانفتاح النص الروائي) ثماني سنوات، ودكتوراه الدولة (الكلام والخبر، وقال الراوي) تسع سنوات. كانت طموحاتنا كبيرة، وأسئلتنا متعددة. في المخطط الذي وضعته لدكتوراه الدولة، كان سيكون أربعة كتب، بل خمسة، لا اثنين فقط. كنت قد جعلت الباب الثالث حول البنيات الخطابية والنصية في السيرة الشعبية، والباب الرابع حول العجائبي في السيرة الشعبية.

إن الذهنية التقليدية التي نمارسها في زمن غير زمانها، وفي شروط مختلفة تدفع في اتجاه إعادة التفكير في إنجاز الرسائل والأطاريح، وحتى الكتب، سواء كانت ذات طبيعة فكرية أو إبداعية.

وعندما أخبرت أستاذي الفاضل محمد مفتاح بانتهاء ما صار «قال الراوي» قال لي إذا كان عدد الصفحات 500، يمكنك تقديم العمل للمناقشة، وتأجيل البابين الآخرين بعدها. أما مادة الباب الرابع فكانت جاهزة، وهي التي أصدرتها سنة 1994 تحت عنوان «ذخيرة العجائب العربية». كان هذا التقليد مفيدا لمن له مشروع، وتصور دقيق حول موضوعه، ولم يكن يفكر في الترقية، أو الحصول على الشهادة، لذلك نجد أغلب الرسائل والأطاريح المغربية التي أنجزت منذ السبعينيات وحتى التسعينيات تحولت إلى كتب ومصادر غنية في مجالاتها المختلفة (أدب، لسانيات، تاريخ، فلسفة…).

تغير هذا الواقع مع النظام الجديد الذي استنسخناه بعد أن سارت عليه فرنسا، فتقيد عدد سنوات الحصول على «الماجستير» (سنتان) والدكتوراه الوطنية (ثلاث سنوات). وحتى الإجازة صارت ثلاث سنوات بدل أربع سنوات في النظام القديم. لكن الذهنية التي دخلنا بها النظام الجديد ظلت تقليدية. تغير كل شيء: المواد، المقررات، كما تبدل المستوى الذي انحط إلى حد أن صارت لغة طالب الدكتوراه تثير في كل المناقشات وقفات طويلة على الأخطاء النحوية والإملائية والأسلوبية. ولا داعي للتوقف على السرقات والقص واللصق، التي باتت تستدعي توظيف برمجيات لضبطها والوقوف عليها. ومع ذلك ظلت أعداد الصفحات معيارا للحكم على المجهود الذي لم يبق فيه ما يبين الجدة في طرح الأسئلة والاستكشاف. صارت الأطاريح متشابهة على مستوى موضوعاتها، ولا تتغير سوى المتون المشتغل بها.

آخر أطروحة ناقشناها في الأسبوع الماضي كانت في حوالي 600 صفحة. وكانت لطالبة تونسية جادة أصرت على عدم حذف بعض الفصول التي اقترحت عليها إزالتها. لكنها كانت مقتنعة بها فأبقت عليها. وفي المناقشة بينت أن أطروحتها كانت تضم فصولا أخرى لم تدرجها، بسبب عامل الزمن الذي فرض عليها التوقف، رغم تجاوزها المدة المحددة. كانت الطالبة ذات رؤية محددة لموضوعها، ولذلك قدرت رغبتها. وقليل من الطلبة من له تصور دقيق لموضوعه.

إن الذهنية التقليدية التي نمارسها في زمن غير زمانها، وفي شروط مختلفة تدفع في اتجاه إعادة التفكير في إنجاز الرسائل والأطاريح، وحتى الكتب، سواء كانت ذات طبيعة فكرية أو إبداعية. سبق لي أن كتبت عن الرواية البدينة، التي لا أراها تختلف كثيرا عن الأطروحة الضخمة.

إن غياب الرؤية الدقيقة للموضوع، واستحالة تحديد المنهج، وعدم تضييق المتن لا يمكن إلا أن يسهم في التعويض عن كل ذلك، بملء العمل بتجميع المعلومات وضم المتناقضات إلى بعضها، مع ما يشوب ذلك من مزالق وهنات وهفوات. كان إعداد الأطاريح يعني «نهاية» مشروع الباحث الذي كان يستنزف فيه جهده، فصار الآن يدل على الشروع في «بداية» لكن الذهنية السائدة تجعلها بلا مشروع.