رأي

عبدالرحيم الفارسي: الخرطوم لما يمزق الرصاص سكون ليلها

يبتسم الزميل الذي يقود السيارة. وأنا جالس عن يمينه، ألتفت عبر النافذة، فإذا بشاب يحملة رزمة من الأوراق المالية يلوح بها ويدعونا لصرف العملة. أهذه هي اللحظة المناسبة؟.
نضحك جميعا، وقد تنفسنا  الصعداء. لقد خرجنا للتو من منطقة الخطر.
أشرت على زملائي في المكتب بالانصراف سيرا على الأقدام بعد أن وضع المتظاهرون متاريس كثيرة في شارع النيل، بحيث يستحيل أن تمر سيارة واحدة. لكن زميلي أحمد أصر على أن نغادر بالسيارة. كان علينا أن نطلب من المحتجين إفساح المجال لنا.
في مثل هذه الظروف يمكن لأي شخص، أن يتحول إلى قائد صاحب سلطة ومقرر  للمصير. وهذا بالتحديد ما فعله معنا شاب نحيف قد لا يكون بلغ من العمر عشرين عاما. وافق غالبية المحتجين على إزالة المتراس الأول، لكن هذا الشاب ركب صهوة العناد وبدأ يقسم ألا تتحرك سيارة واحدة. خاطبته بهدوء: أهكذا تعاملون الضيوف؟. كان لهذه الكلمة وقع في نفسه، فسألني إن كنت سودانيا، أجبته أن لا. تخلص من عناده، ورفع شارك النصر. ثم انطلق الشبان معنا لاقناع حراس المتراس الثاني، وانضم هؤلاء إلى الأولين لاقناع شبان المتراس الثالث.
لا يبالي هؤلاء المحتجون بما قد يحدث لهم. لقد حضروا جولة من شلال من النيران أطلقها عناصر من الجيش في الهواء لتخويفهم ومنعهم من الاقتراب من القصر الجمهوري. كنا شهودا على ذلك، ورأينا في مقاطع فيديو لاحقا، عددا من المحتجين مصابين بجروح.
لما يخرج الجيش الى الشارع، ترتفع احتمالات اطلاق النار.
ما حدث الليلة في ميدان الاعتصام أمام قيادة الجيش في الخرطوم سيحتاج الى تحقيقات مطولة.
بعد ان تناولت طعام الافطار توجهت الى المكتب لانجاز احدى الرسائل المباشرة. كنت مطمئنا الى ان الانفراج بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق. فقبل أذان المغرب باقل من ساعة استدعانا المكتب الاعلامي للمجلس العسكري الانتقالي، لحضور مؤتمر صحفي عاجل. كان المتحدث الشاب شمس الدين الكباشي مبتسما مزهوا، وبجانبه طه عثمان المتحدث باسم قوى الحرية والتغيير هادئا، لكنه متفائل. استمعنا الى حديث الرجلين. تناغم شديد في الخطاب، وحديث عن الاتفاق على الخطوط العامة لتقاسم السلطة في الفترة الانتقالية. لم يبق سوى الاتفاق على التوزيع العددي للمناصب.
بينما كنت استعد للرسالة المباشرة، سمعت بضع طلقات للنار قادمة من منطقة الاعتصام. مضت دقائق معدودة، فاذا بالرصاص يلعلع ثانية.
قلت امام الكاميرا ما كان بجعبتي وانهيت الاتصال المباشر. تجادل الزملاء حول المكان الذي نحتسي فيه القهوة ونتناول طعام السحور. بعد الاتفاق امتطينا السيارة، وما ان وضع الزميل احمد مفتاح المحرك فيها حتى وصلني اتصال هاتفي من مقر القناة.
الوضع في الميدان حرج، وسنحتاج اليك فورا. يقول الزميل من غرفة الاخبار. أسقطنا المقهى والمطعم من برنامجنا، وعدنا مهرولين الى المكتب. اطلاق النار يصبح كثيفا. صرخات المعتصمين ونداءات الاستغاثة تتعالى في سماء المنطقة. إنه مشهد مروع. يتواصل اطلاق النار. نضطر الى اطفاء الانوار لئلا نكون هدفا للقناصة. تتحرك حاستي الامنية، وخبرتي الميدانية، انه تراشق بين فريقين مسلحين. وفجأة يدوي في سماء المنطقة انفجار قوي. إنها قذيفة آر بي حي.
يرتفع الصياح. تعج شبكات التواصل الاجتماعي بالاخبار ومقاطع الفيديو. احدها يظهر فيه مسلحون يطلقون النار بشكل أفقي. إن هذه الطريقة دليل على الرغبة في القتل. ينبطح من ترصدهم كاميرا الهاتف المحمول.
يصلنا بيان من قوى الحرية والتغيير. يتحدث اصحابه عن "ميليشيات الظل وقوى الثورة المضادة". يصلنا بيان للجيش. يتحدث ايضا عن مسلحين تسللوا الى محيط الاعتصام. 
اذن هناك شبه اتفاق في خطاب الجيش والمعارضة. ثمة "قوى تريد اسقاط التوافق".
يخرج المتظاهرون من ميدان الاعتصام. يصل الى جسر غير بعيد عن القصر الرئاسي.
النار التي أطلقها الجيش كانت كافية لابادة الالاف. مر عذا كله تحت مرأى ومسمع منا. من حسن حظ الشبان الذين اوقفونا امام المتاريس ان الجيش وجه فوهات بنادقه نحو السماء.
 أصل الى محيط الفندق، نفاوض فريقا من عناصر الجيش، فيرفضون السماح لسيارتنا  بالمرور، رغم أن زميلي أحمد اخبرهم بأن معه ضيفين من نزلاء الفندق. قررت ان اخرج واقطع المسافة الفاصلة مشيا. تأثر الجندي لذلك، فطلب مني ان اعود الى مقعدي، وفتح الحاجز العسكري.
الانسان السوداني مهما كان الظرف، لا تغادره كرامته وكرمه مع الضيف.
لكن البلد على صفيح ساخن.