قضايا

العبث بمؤسسة الزواج

محمد إكيج

لقد أحاط المشرع المغربي مؤسسة الزواج منذ صدور مدونة الأسرة سنة 2004 بعدة مقتضيات تشريعية مهمة، بدءا بوضع تعريف جامع مانع لها –حسب تعبير الفقهاء – ينص على أن "الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة"، وإخضاعه لسلطة القضاء في جميع مراحله بدءا من الحصول على إذن من قاضي الأسرة المكلف بالزواج بعد الإدلاء بطلب مصحوب بوثائق محددة تتم مراقبتها من طرف القاضي نفسه، أو الحصول على إذن خاص في حالات معينة محددة على سبيل الحصر في مدونة الأسرة كالإذن بزواج من يبلغ سن أهلية الزواج أو ما يعرف بزواج القاصرين (المواد 20 -22)، أو إذن بزواج المصاب بإعاقة ذهنية (المادة 23)، بناء على السلطة التقديرية للقضاء في الحالتين المذكورتين؛ أو الإذن بتعدد الزوجات (المواد 40 – 46) المقيد بضرورة وجود "المبرر الموضوعي والاستثنائي" الموكول تقديره أيضا للمحكمة؛ أو إذن بالزواج المختلط (منظم بعدة مناشير وزارية) الذي يخضع لإجراءات مسطرية دقيقة وبحوث تقوم بها الشرطة القضائية بطلب من النيابة العامة؛ ثم انتهاء بتوثيقه أمام العدلين، باعتبارهما الجهة القانونية الوحيدة المخول لها توثيق هذا النوع من العقود وسماع الإيجاب والقبول من طرفيه والإشهاد على كل الشروط التي يمكن أن يتم الاتفاق عليها بينهما.. واعتبار هذه الوثيقة الوسيلة المقبولة لإثبات قيام العلاقة الزوجية (المادة 16) ...

بل وأكثر من هذا تمت إحاطة هذه المؤسسة بحماية زجرية يتم إعمالها إذا ثبت وقوع التدليس على أحد أطرافها أو في وثائقها المدلى بها أمام القضاء إذ "تطبق على فاعله والمشاركين معه أحكام الفصل 366 من القانون الجنائي بطلب من المتضرر" كما نصت على ذلك المادة 66 من المدونة.

إلا أنه وعلى الرغم من هذه المقتضيات كلها، فإن مؤسسة الزواج في بلادنا لم تسلم من العبث والتحايل في عدم الخضوع لهذه المقتضيات من طرف بعض المواطنين والمواطنات، حيث ظهرت أشكال وأنماط للارتباط بين الجنسين تحت مسمى "الزواج" إلا أنها في واقع الأمر ليست كذلك لأنها وطبقا لأحكام مدونة الأسرة إما أنها مخالفة للمفهوم الذي وضعته المدونة للزواج وقيدته بعدة ضوابط، أو تدخل في خانة "الزواج الباطل" أو "خانة الزواج الفاسد" أو فيها غبن وجور على مستوى الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين المبين بشكل واضح وصريح في المادة 51 من المدونة. ومن أبرز هذه "الزيجات" التي أصبحت تروج في مجتمعنا نذكر:

"زواج الكنطرا"، وهو نوع من الارتباط يتم فيه استغلال حاجة وفقر بعض الأسر من أجل تزويج الفتيات القاصر ات، ويقوم هذا "العقد" على أساس التزام أو اعتراف بدين بين ولي القاصرة و"الزوج"، ويكون في الغالب اعترافا صوريا، ويتم بموجبه "تزويج البنت" دون الحصول على إذن قاضي الأسرة المكلف بالزواج ولا الإشهاد على هذه العلاقة أمام العدلين. ولا شك أن هذا العقد مشوب بعدة عيوب على مستوى الشكل وكذا المضمون، فهو طبقا لأحكام المدونة الأسرة ليس بعقد زواج لافتقاده لشروطه الشكلية والموضوعية التي حددتها مدونة الأسرة لكيفية إبرام عقد الزواج، ثم إنه وطبقا لقانون الالتزام والعقود عقد صوري لأن شكله ومضمونه لا يتطابقان مع جوهره وغايته، فشكله عقد مدني ومضمونه اعتراف بدين والغاية منه الزواج، وبالتالي فلا يمكن الاحتجاج به أمام القضاء للمطالبة بحقوق الفتاة القاصرة أو إثبات قيام العلاقة الزوجية بينها وبين "الزوج المدين"!! ثم إن ولي القاصرة يجد نفسه مغلولا بهذا العقد، إذ لا يستطيع أن يتقدم بأي شكاية في حق صاحب الاعتراف بالدين، لأنه يخشى أن يُتابع بجريمة المشاركة في التدليس في بناء هذه العلاقة خلافا لمقتضيات القانون، وبذلك يكون قد جنى على نفسه وعلى وليته القاصرة.

الزواج الأبيض (mariage blanc)، أو ما يسميه الفقهاء بـ"الزواج بنية الطلاق"، ويتم اللجوء إليه في بعض حالات الالتحاق بالزوج، حيث يعمد بعض الأشخاص إلى إبرام علاقة زوجية صورية مع نساء يُقِمْن في مناطق نائية بغرض تمكينهن من "امتياز الالتحاق بالزوج" من أجل الانتقال إلى مكان قريب من عائلتها أو إلى منطقةٍ ظروفها وخدماتها الطيبة والاجتماعية أفضل من المنطقة التي توجد بها حاليا؛ إلا أن هذه العلاقة مشوبة بعيب "سوء النية" فظاهر النية زواج ولكنها تستبطن الطلاق والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "إنما الأعمال بالنيات"، ومحفوفة بشبهة "الزواج المؤقت" التي تنافي وصفة الدوام المشار إليها في تعريف الزواج الآنف الذكر، ومعيبة بجريرة الاستغلال بحكم أن الزوجة تقوم بدفع قسط كبير من المال (يصل أحيانا إلى 100 ألف درهم) إلى الزوج الذي سيساعدها في تسهيل مأمورية الانتقال تحت مسمى "الزواج"، بل و قد يغري هذا النوع من "الزواج الأبيض" إلى وقوع بعض الرجال في جريمة "الإثراء غير المشروع" إذا تكرر مع حالات متعددة!!

المساكنة الحرة (Concubinage)، وهي ظاهرة آخذة في الانتشار خاصة في المدن الكبرى في أوساط فئة من المواطنين، معظمها ينتمي إلى ما يسمى بالنخبة المثقفة، تؤمن بمبدأ "العلاقة الرضائية بين الجنسين" والقائمة على أساس العيش بين رجل وامرأة تحت سقف واحد واقتسام السكن والفراش، لكن دون عقد زواج ولا الالتزامات أو المسؤوليات التي تترتب عنه. ولا شك أن هذا النوع من العلاقة وإن كان مبنيا على أساس التراضي بين الطرفين، إلا أنه لا يمكن أن يحظى بشرف الانتساب لمؤسسة الزواج لانعدام أركان وشروط تلك المؤسسة في هذه العلاقة وافتقاده أيضا لشرط التوثيق الشرعي والإعلان الصريح أمام المجتمع، إذ يقوم في الغالب على السرية والتخفي عن أنظار الأهل والأقارب وعموم المعارف والجيران. وبالتالي فهو يدخل في خانة جريمة الفساد التي ينص القانون الجنائي المغربي على عقوبتها في الفصل 490 الذي ينص على أن "كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة فساد ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة".

"زواج المسيار"، وهو شكل من أشكال العقود الوافدة على بلادنا من المشرق العربي وتحديدا من بلدان الخليج التي تقره وتعترف به، ويتم استدراج الفتيات والنساء المغربيات إليه بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي أو بواسطة تطبيقات معلوماتية معدة خصيصا لهذا الغرض، وقد تم التنبيه على هذا الأمر من طرف وزير العدل سنة 2015 بمقتضى دورية عدد 43س2 موجهة إلى الرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف ورؤساء المحاكم الابتدائية وقضاة التوثيق بها حول زواج المواطنات المغربيات عن طريق الوكالة بالخارج.

ويعرف هذا النوع من "الزواج" على أنه "عقد نكاح تتنازل فيه المرأة عن بعض حقوقها على الزوج، أو يشترط الرجل إسقاط بعض حقوقها، وترضى بأن يأتيها في محل إقامتها متى شاء"، ولا يخفى أن هذا النوع من التعاقد مخالف لمقتضيات مدونة الأسرة على مستوى الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين المنصوص عليها في المادة 51، ومخالف لمقتضيات المادة 47 المتعلقة بالشروط الإرادية لعقد الزواج والتي تنص على أن "الشروط كلها ملزمة، إلا ما خالف منها أحكام العقد ومقاصده"، وفيه خروج عن مقاصد الزواج الشرعية والقانونية وهدر لكرامة المرأة المغربية وإساءة لصورة المجتمع المغربي في الخارج، بل وأكثر من هذا وذاك إساءة لمؤسسة الزواج وتحويلها من مؤسسة مسؤولة إلى مجرد مؤسسة لعلاقة جنسية ومتعة عابرة مع هدر الكرامة والحقوق.

إن كل الأنواع سالفة الذكر مما يوصف بأنها علاقات زوجية تنتج عنها مضاعفات سلبية خطيرة أبرزها:

اهتزاز مؤسسة الزواج الشرعية والقانونية والإجهاز على الأسرة التي تعتبر دستوريا الخلية الأساس لبناء المجتمع،

كثرة ضحايا هذه العلاقات، وخاصة النساء والأطفال، فالنساء يَضِعْن في دوامة علاقات غير معترف بها قانونا فيخسرن كرامتهن وحقوقهن على السواء وما ظاهرة الأمهات العازبات عنا ببعيدة؛ وأما الأطفال الذين قد ينتجون عن مثل هذه العلاقات فسيكتشفون مع مرور الزمن أنهم بلا نسب معروف في المجتمع، فيكون ذلك داعيا للتمرد على المجتمع أو الرغبة في الانتقام منه بالجنوح والإجرام.

مما يتطلب ضرورة تكثيف الوعي بالعواقب الوخيمة لمثل هذه الزيجات من جهة، ومن جهة ثانية، ضرورة تفعيل دور النيابة في حماية مؤسسة الزواج باعتبارها –وحسب المادة 3 من المدونة-طرفا أصليا في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام مدونة الأسرة.