قضايا

مخاطر انزلاق السياسة والعلوم

الحسين بوخرطة

إن التحولات السريعة التي يعرفها العالم زمن ما بعد الحداثة لا يمكن أن لا تكون دافعا لدى كل الفاعلين والباحثين في دول الجنوب بشكل عام، وفي دول الشمال بشكل خاص، للتفكير اليومي في مدى ارتباط السياسة والعلوم بمصلحة المجتمعات الآنية، وفي حدة القلق الشائع في النفوس في شأن المستقبل الإنساني للمجتمعات قطريا وكونيا. إنها تحولات تبرز وكأن الرأسماليين يقومون بتحويل الحضارة الإنسانية، بدون إعلان ذلك بشكل مباشر، وتحت غطاء الليبرالية السياسية (الديمقراطية) والاقتصادية (العولمة) والثقافية (الحداثة)، في اتجاه انزلاق سياسي وعلمي في خدمة الأقليات والسلط المتحكمة في المؤسسات الدولية والوطنية الرسمية وغير الرسمية.
إن عالم اليوم يعيش علاقة، في توطد مستمر، بين العلوم، خاصة العلوم التكنولوجية (Techno-sciences) بمختبراتها المتعددة، والاقتصاد، بحيث أصبحت ثقافة المعرفة مرتبطة بثقافة المعلومة، وبالسلطة المؤسساتية، تحت شرط قابليتها (أي المعرفة) للتحول إلى ثروة إنتاجية (Richesse productive). إنه واقع جديد بتداعيات مقلقة تمس بشكل مباشر معيش الطبقات الهشة والفقيرة. لقد لامست ذلك عن كتب من خلال حواراتي مع عدد كبير من الحرفيين والصناع في مختلف المدن الصغيرة والمتوسطة وحتى الكبيرة. لقد أكدوا جميعا إن المنتجات الصناعية، التي كانوا يختصون في إصلاحها (الغسالات، وشاشات التلفاز، والسيارات ....)، أصبحت تكنولوجيا لا تقبل أي صيانة أو إصلاح خارج مقرات مصنعيها الأصليين، بحيث تتحول بعد انقضاء مدة الضمانة، أو مدة الصلاحية (مدة الحياة المتوقعة) إلى نفايات تكنولوجية. وبذلك، فموازاة مع استمرار إعلانات إفلاس الوحدات الإنتاجية بسبب التفوق التكنولوجي والتدبيري للشركات والمقاولات الكبرى، أصبحت دول الجنوب تعاني من إغلاق محلات الصناع والحرفيين التقليديين بسبب الإقبال المتناقض باستمرار لزبنائها.
حتى على المستوى التربوي والتكويني، أصبحت مردودية الأجيال الصاعدة، ونجاحهم والفائدة من أدائهم، مرتبطة بمدى قدرة الأفراد والجماعات على تحويل معارفهم إلى ثروة ملموسة، ثروة تكنولوجية أو سمعية بصرية أو إعلامية وإشهارية أو منهجية،..... وبذلك لم يعد للتربية والتعليم التقليديين أي مكانة لا في سوق الشغل، ولا في الاستراتيجيات المؤسساتية الخاصة والعامة. الاقتصاد التكنولوجي الذي اكتسح العالم لم يعد يحتمل اليد العاملة كقوة عمل عضلية، بل أصبح لا يطيق إلا الموارد البشرية القادرة على تحويل، أو المشاركة في تحويل، النظريات العلمية إلى منتجات قابلة للاستهلاك والنفاذ في الواقع، أي في الأسواق العالمية. فتكريس ظاهرة استنساخ المعدات والآلات التكنولوجية مباشرة بعد "موت" التي سبقتها في الإنتاج، مع استحالة تدخل الحرفيين والصناع في إصلاحها، أصبح يثير الذعر والقلق ويزعزع المعتقدات جراء ما يروج من حين وآخر من رسائل جريئة تروج فكرة تجاوز عمليات الاستنساخ مجالات الصناعة والفلاحة لتمتد إلى البشر (استنساخ الأذكياء والناجحين واستمرار سلطاتهم).
لقد أثرت هذا الإشكال، المعقد بالنسبة لنا كشعوب جنوبية، نظرا لما نلامسه من قلق وتهديدات في الحياة المجتمعية لبلداننا. إنه الوضع الذي يتطلب اليقظة والنضال بسلط إنسانية مضادة من أجل التثبيت الثقافي للمسؤولية الأخلاقية للعلوم من أجل مواطنة وحضارة كونية للعيش المشترك. إنه النضال الذي يجب أن يكون مؤطرا بشعار الحفاظ على الشرعية المواطنة للعلوم المختلفة، شرعية تجعل العلوم، كما كان في السابق أي في عصر الأنوار، الحامل الأساسي لمشعل التنوير الثقافي، وتحويل المرحلة الحرجة التي يعيشها عالم اليوم إلى مرحلة أكثر تنويرا بمعارف علمية وفيزيائية وجغرافية جد متقدمة بخاصية التطور المستمر الذي يمتد بدون فرامل أو عراقيل من الشمال إلى الجنوب.
خلاصة
كما سبق أن أشرت إلى ذلك في مقالي السابق، فإن تحقيق هدف تقوية الشرعية المجتمعية للعلوم المختلفة، ومتعددة المجالات والتخصصات، لن يزداد إلا استعصاء ما لم تبادر الدول، خصوصا في الجنوب، إلى تقوية الديمقراطية وتحويلها إلى قيمة ثقافية مجتمعيا، من خلال "صناعة" أو تكوين رأي عام متشبث بحقه في الفهم، وحقه في أن يصبح قوة عارفة وعالمة وواعية برهانات وتحديات المستقبل. إنها الحاجة إلى الروح الجماعية المقاومة للظلام والظلمات والتكيفات والتعودات والعادات المفروضة، روح مدعمة بالقوة اللازمة التي تمكنها من اكتساب مستوى كافيا يؤهلها لطرح التساؤلات الضرورية باستمرار، وفي الأوقات والمراحل والأماكن المناسبة، وبالتالي اكتساب القدرة على التحرر والانسلاخ عن الأوضاع والأفعال والخطابات التي لا تفهمها، وعلى الانخراط القوي والجدي في ورش الحداثة غير المنتهي، وحمايته من الانزلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية.