قضايا

دفاعا عن وزير الأوقاف.. الفوائد البنكية ليست من الربا

محمد عبد الوهاب رفيقي (باحث متخصص في فقه الأموال في المذهب المالكي)

أثار الدرس الحسني الأول لهذه السنة، الذي ألقاه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، لغطا واسعا، بلغ حد اتهام السيد الوزير بتحليل الحرام والخروج عن قواعد الشريعة الإسلامية ومسلماتها، لمجرد أنه رأى أن تحريم الفوائد البنكية على القروض، واعتبارها من الربا الذي جاء القرآن بحرمانه، سبب حرجا على المسلمين وتضييقا عليهم، وكأنه جاء بجديد لم يسبقه إليه غيره، أو ابتدع مذهبا لا يعرف له المسلمون مثيلا.

والواقع أن ما ذهب إليه وزير الأوقاف سبقه إليه عدد من الفقهاء والباحثين من مختلف الدول الإسلامية، وليس الغرض هنا سرد آرائهم ولا اتباع أقوالهم، بقدر ما أريد شرح ما ذهب إليه الوزير، وتأييده من داخل المنظومة الفقهية والقواعد المرعية، بما يجعلني أعتبر أن رأيه كان موفقا وسديدا، رغم كل حملات التهييج والتحريض التي نالته، خصوصا ممن يرون أن مثل هذه الأقوال تفسد عليهم مشاريعهم الاقتصادية التي لم تغير شيئا من طريقة عمل البنوك التقليدية سوى الشكل والصورة، ثم أضفت عليها وصف “الإسلامية”، لتستقطب أموال الخائفين من الوقوع في الحرام وارتكاب المعصية، ولتريح ضمائرهم المحرجة مقابل أرباح مضاعفة وفوائد خيالية.

ولبيان ذلك لا بد من الوقوف على النقاط الآتية:

أولا: ليس هناك شك بين المسلمين جميعا في حرمة الربا، بل إن كل الشرائع السماوية اتفقت على تحريمها وتجريم أخذها، لا يتنازع في ذلك اثنان ولا يتناطح فيه كبشان، ولكن الإشكال في تحديد مفهوم الربا، وتحقيق مناط النص في النوازل الطارئة، وتكييف المعاملات المستحدثة، ومقارنة ذلك بما نزل بشأنه النص تحريما، وبيان وجه التماثل أو الشبه بشكل صريح وغير قابل للتأويل، خاصة أننا نخوض في قضية منع وتحريم، حيث لا بد من الاحتياط والتثبت لما فيه من التحريج على الخلق والتكليف.

ثانيا: بناء على ما سبق فهل تتطابق غايات التحريم في الربا الذي ورد بحقه القرآن مع صور المعاملات البنكية الحديثة؟.

بالرجوع إلى الآيات القرآنية المحرمة للربا، ومعرفة أسباب ورودها ونزولها، نجدها تتحدث عن صورة المعاملة الربوية التي كانت شائعة يومئذ دون غيرها، وهي ربا النسيئة أو ما يعرف بربا الجاهلية، أي التأخير وطلب الزيادة في المال بزيادة الأجل، إذ كان المرابون يقرضون المال للمحتاج الفقير، فإذا حل أجل الدين ولم يتمكن من الوفاء أضعف له المال وأضعف له الأجل، ويكرر ذلك كلما تأخر في السداد، وربما بلغ الأمر أن يرهن نفسه أو أحد أولاده عند العجز الكامل.

فهذا هو الربا الذي حرمه القرآن، وهو الربا الذي كان يتعامل به العباس بن عبد المطلب ووضعه النبي وأبطله في حجة الوداع. والأوصاف الواردة في النصوص القرآنية مؤثرة في علة التحريم لا يمكن تجاوزها، ككون المدين فقيرا محتاجا، وكون الربا في الدين وتضعيفه عند العجز، وطريقة استغلال عجز المدين وحاجته، وكلها أوصاف غير منطبقة على واقع المعاملات البنكية الحديثة، فلا طالب الدين لشراء مسكن أو سيارة بفقير محتاج، بل هو موظف يراقب البنك وضعيته المالية قبل الإدانة، ويتحقق من قدرته على الأداء لفترة طويلة، ولا كل هذه المعاملات من قبيل الإقراض والاقتراض، ولا هي من قبيل الاستغلال المضر، بل هي من قبيل المصلحة والمنفعة المتبادلة بين الطرفين.

ولا ترد على هذا بعض الصور الربوية الواردة في بعض الأحاديث النبوية، لما يعتريها من ظنية في ثبوتها ودلالتها، خاصة أن عددا من النصوص الأخرى تؤكد هذا المعنى القرآني وتحصره فيه، كما في حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد أن النبي (ص) قال: “إنما الربا في النسيئة”، وهو ما كان يتبناه عدد من الصحابة كعمر بن الخطاب وابن عباس.

ثالثا: جعل القرآن فارقا وضاحا بينا بين التجارة والربا، حين جعل شرط الأولى التراضي بين الطرفين، ووصف ما كان بغير تراض بـ”أكل المال بالباطل”.. “يأيها الذين آمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم”، وربا الجاهلية ليس به أي نوع من التراضي، بل يكره عليه الدائن كرها، أما المعاملات البنكية فطالب القرض هو المبادر إلى طلبه، وهو من يهيئ الملف وشروطه ووثائقه، بعد أن اطلع على كل شروط العقد وتبعاته وما يكلفه من زيادات مالية، فيوقع عليها وهو في حالة من الرضا والاقتناع والاستعداد، فكيف يقارن مثل هذا بما سبق؟.

رابعا: يبني من يرى ربوية الفوائد البنكية على قياس النقود الورقية على الذهب والفضة، واعتبارها داخلة ضمن الأصناف الربوية التي جاء بها حديث الأصناف الستة المعروف في تحديد الربويات، وهذا برأيي قياس غير دقيق، فضلا عن أنه محل خلاف بين الفقهاء، وهو خلاف كبير وواسع يفقده قطعيته وحجيته.

فقد اختلف الفقهاء حول علة الربا في النقدين، بين من يراها متعدية إلى غيرها من الأثمان، وبين من يراها على قاصرة لا تتعدى الذهب والفضة، وهو أقرب برأيي إلى الصواب، إذ إن قيمة الذهب والفضة كانت ثابتة لا تتغير مهما مرت السنين والأعوام، فكيلوغرام من الذهب في زمن معين لا تتغير قيمته ولو بعد عقود من الزمن، أما الأوراق النقدية فقيمتها متغيرة دوما، وغير مرتبطة بقيمتها الأصلية، بل هي خاضعة لميزان قوة الاقتصاد واستقراره، ومرتبطة كل الارتباط بالقوة الشرائية وضعفها، خصوصا بعد ما وقع في السبعينيات من القرن الماضي، من إلغاء تغطية النقود الورقية برصيد الذهب، واستبداله بمقومات اقتصادية أخرى، ولهذا ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى اعتبار المعاملات البنكية من قبيل الإقراض بالسلع الذي يباح فيه التفاضل والنسيئة، وليس من القرض بالذهب الذي جاءت بتحريمه النصوص.

فليس من العدل أن يقرضك البنك مبلغا من المال، ثم ترد عليه بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة المبلغ نفسه، مع ما جرى خلال تلك السنوات من تغير في القيمة، وما تحمله البنك من مصاريف إدارية ومالية، علما أن البنك هو مؤسسة استثمارية تبغي الربح والانتفاع، وليس وقفا خيريا يقرض المحتاجين ما يريدونه من قروض حسنة.

خامسا: على التسليم بأن هذه الفوائد البنكية هي من الربا فإن الربا الذي حرمه القرآن ورتب عليه الوعيد هو ما كان أضعافا مضاعفة..”يا أيها الذين آمنوا لا تاكلوا الربا أضعافا مضاعفة”. ومفهوم المخالفة يقتضي أن ما لم يكن أضعافا مضاعفة ليس من الربا، فالتضعيف قيد قرآني يخصص كل العموم الوارد في الآيات الأخرى، ولا يمكن أن يكون قيدا دون فائدة، فكلام الله تعالى منزه عن العبث.

والفوائد البنكية ونسبها التي تحددها البنوك المركزية ليست من الأضعاف المضاعفة، بل هي نسب محددة، تتحكم في تعيينها البنوك المركزية، مراعاة لواقع الاقتصاد المحلي ومتوسط القدرة الشرائية، فتكون مباحة حتى على التسليم بأن هذه المعاملات من الربا.

سادسا: على التسليم أيضا بأن هذه الفوائد من الربا، فإن نصوص القرآن كلها الواردة في تحريم الربا ترتب الإثم على الآكل لا الموكل.. “يا أيها الذين آمنوا لا تاكلوا الربا”، “وأخذهم الربا وقد نهوا عنه”، ” الذين ياكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس”… وليس في القرآن ما يجعل الإثم على الموكل أو المدين، وإنما اجتهد الفقهاء في ذلك بناء على ما في الحديث الذي في صحيح مسلم “لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه”؛ وهي رواية فيها كثير من الاضطراب والتعارض، وأقصى ما يمكن القول فيها إنها اجتهاد من عبد الله بن مسعود أو بعض تلاميذه.

سابعا: كل ما سبق مبني على تكييف المعاملات البنكية بأنها من قبيل إقراض الذهب، لكن هذا غير مسلم به عند كل الباحثين، فمنهم من كيفها على أنها قرض بسلعة كما سبق بيانه، ومنهم من اعتبر إيداع الأموال بالبنك من قبيل الاستثمار والمضاربة؛ وبناء عليه لا يمكن اعتبارها من الربا المتفق على تحريمه، بل الناس أحرار في اختيار ما اقتنعوا به دون تحريج أو تأثيم.

خلاصة الموضوع أن قياس الفوائد البنكية على الربا المحرم في الأديان السماوية هو اجتهاد بشري محض، وليس قرآنا منزلا ولا إجماعا قطعيا، بل هو مما تختلف فيه الأنظار، وتتعدد فيه الرؤى والتوجهات، وما كان كذلك فمقاصد الشريعة تميل نحو التيسير على الناس، ورفع الحرج عنهم، وهو عين ما جاء في الدرس الذي تفضل به وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في حضرة أمير المؤمنين.