قضايا

في الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد بين السلطة السياسية والمجتمع المدني

محمد عصام لعروسي

من البديهي أن الحراك الاجتماعي الذي تعرفه منطقة الريف في المغرب لا يخرج عن سياق التعبير عن مطالب اجتماعية عادلة ويتشبث بمنطق السلمية واستعمال وسائل حضارية في الاحتجاج، غير أن ثقافة الاحتجاج في حد ذاتها تحتاج إلى الكثير من التبصر والنفاد والتعمق في مغزاها العميق، وتكشف عن مدى التناقض الصارخ بين الفضاء السياسي والاجتماعي، كما تسائل عن آليات الاحتكام والمراقبة الكفيلة بتصحيح سوء الفهم وإعادة الثقة بين مكونات المجتمع المدني، وخاصة الشباب والدولة، بكل ما تعنيه لديهم من كونها مجرد آلة للقمع والتسلط وفرض الحلول الفوقية ضدا عن الاجماع وضرورة التشاور المجتمعي.

شكل الحراك الاجتماعي في الريف صرخة مشروعة تعبر عن رفض ضمني ومعلن لطريقة تدبير المشهد السياسي في المغرب، وهو ليس تعبيرا عن مطالب آنية وإنما يختزل سنوات طويلة من سوء الفهم الكبير لم تستطع الدولة أن تنتصر فيه لمقاربة الانسان بكل تمفصلاته السياسية والاجتماعية والثقافية، هذا الخلاف هو تراكم لسنوات من التدبير المشوه للجماعات الترابية أيضا، التي أنتجت نخبا سياسية فاسدة تتعامل مع مشاريع التنمية المحلية بمنطق المتاجرة والاحتكار والزبونية والتدبير العشوائي.

بالفعل، إن السياسات العمومية فشلت في تحقيق أهداف التنمية في العديد من المناطقة المهمشة والمعزولة، وليس الريف وحده تعرض للإقصاء والتهميش، وإنما العديد من المناطق تعيش على إيقاع العزلة والحاجة، كالجنوب الشرقي ومناطق الأطلس المتوسط، ما يكرس مفهوم المغرب غير النافع باستعارة تقسيم ليوطي الاستعماري. إنه مدخل التنمية الحلقة المفقودة في العديد من مناطق المغرب العميق الذي مازال يصارع من أجل لقمة عيش وكسوة تقي من الصقيع، ومستوصف يقدم أدنى الخدمات العلاجية.

لكن الحراك الاجتماعي في الريف يمزج بين كل القضايا ويرفع شعارات تخلط بين ما هو سياسي واجتماعي، ويمعن بعض من قيادييه في ضرب الثوابت واحتقار الرموز الوطنية والاستهانة بأماكن العبادة، باسم الخصوصية الثقافية التي لا تمنع من احترام الرموز الوطنية، ما يعني أن هذا الحراك الاجتماعي وإن استطاع أن يمتحن السلطة السياسية في جدية التعامل مع المطالب العادلة ويكسب شوطا في معارك الاحتجاج، فإنه يفتح قوسا على أسئلة مشروعة، أهمها: ماذا يعني الحراك في ذهنية بعض المناضلين في الريف؟ أي مساءلة الحمولة الفكرية والمرجعية لديهم، وما هو مداه وآفاقه المستقبلية، خاصة وأن الدولة تحاول أن تواجه الحراك بالطرق التقليدية أحيانا؟ وما هي خطورة الاستهانة بقيمة الأمن والاستقرار في المغرب، وتجنب ما تعيشه دول الجوار ودول عربية تعيش في جحيم الحروب والاضطرابات الأمنية؟

أسئلة حارقة تحتاج إلى مبادرات وحوار عميق حول مخرجات هذه الأزمة الاجتماعية، ومساءلة أسباب تراجع الفضاء السياسي ونكوصه وعجزه عن مواجهة الاحتقان الاجتماعي.

الاحتقان الاجتماعي وأزمة الممارسة السياسية

اعتبرت العديد من الدراسات الحديثة أن الأنظمة التقليدية في الدول النامية فشلت في استنساخ الأنظمة الحداثية وتحقيق نماذج ديمقراطية نابعة من الإرادات الحرة والأفكار السياسية المنتجة، وتمحور الصراع السياسي حول نماذج تقليدانية مشوهة ونخب سياسية كرست في بعض الدول مفهوم الحزب الأغلبي وأنظمة سلطوية ساهمت في توسيع الهوة بين الحاكمين والمحكومين، مع فشل هيئات المجتمع المدني في كسب مساحة ضرورية لتحقيق التوازن المجتمعي والدفاع عن مصالح الطبقات الاجتماعية، وهو الأمر الذي يفسر قوة بعض المجتمعات الغربية، على حد قول اليكس دوتكفيل الذي هاله في كتابه "الديمقراطية في أمريكا" ما وصل إليه المجتمع الأمريكي من صناعة هيئات مهنية ومدنية قادرة على الدفاع وحماية حقوق المنتفعين أمام جبروت الدولة وسيادتها.

سقطت معظم الأنظمة العربية، في مصر وتونس مثلا، بسبب احتكار النخب السياسية في هذه البلدان لكل المقدرات الاقتصادية وفساد هذه الأنظمة الكمبرادورية التي فشلت في تحقيق التنمية لشعوبها، وظلت تنتج خطابا أحاديا يدعم آليات السلطوية وقمع الحريات واضطهاد المقهورين، مع استبعاد المؤسسات الوسيطة. غير أنها دخلت قسرا مرحلة الخريف العربي، وخاصة في سوريا وليبيا واليمن والعراق والسودان، البلدان التي تحولت دول إلى فاشلة تغشاها الحروب والنزاعات المسلحة المستعصية على الحل. لقد تحول الاحتجاج الاجتماعي إلى رفع سقف المطالب السياسية لينزلق الحراك بعد ذلك في مستنقع الفوضى، مع وجود أجندات غربية تريد تشتيت المنطقة على أساس طائفي، عرقي وديني.

لا شك أن هيمنة ثقافة الاحتجاج في المغرب وانتقال الصراع بين النظام السياسي والحركات الاحتجاجية إلى الشارع يرجع في مجمله إلى غياب المؤسسات المجتمعية والمدنية الوسيطة القادرة على خلق قنوات قارة وثابتة للحوار بين كل الفئات المجتمعية المتضررة، الأمر الذي يفسر من جهة سيادة منطق الوصاية المفروض قسريا من الدولة على المجتمع وابتلاعها لكل الحساسيات السياسية والمدنية من أحزاب ونقابات وجمعيات وغيرها؛ حيث إن انعدام التأثير الفعال للمؤسسات الوسيطة ساهم في تعميق الهوة بين الفاعل الرسمي والمواطن العادي وتنامي الاحساس بالغبن وعدم الثقة في الأجهزة الرسمية التي ساهمت بفسادها وسلطويتها في وضع النظام في مواجهة الشارع وخلق حالة الاحتقان السياسي، ما يعني وجود صراع غير متوازن على أجندات سياسية واجتماعية يفترض أن تشكل عمق اهتمام الأحزاب السياسية والهيئات المدنية، وهذا ما يفسر نسبيا خوض بعض الفئات الاحتجاجية في مطالب تفوق الاحتياجات الاجتماعية وتصل في غياب التأطير إلى الفوضى العارمة والتشويش على مآل الحراك ومخرجاته.

من جهة أخرى، سقطت جل الأحزاب المغربية في اختبار ممارسة السلطة، وتميزت جل الحكومات المتعاقبة بعدم القدرة على إنتاج مبادرات قوية وفاعلة تشهد على تأثير الأحزاب في المشهد السياسي المغربي، وظلت المؤسسة الملكية منتجة لكل المشاريع الناجعة من خلال إعادة توظيف دور جديد للمؤسسة الملكية ومشروعيتها التاريخية التي تشكل مصدر إجماع لكل المغاربة؛ وذلك عبر إطلاق مشروع التنمية البشرية والمفهوم الجديد للسلطة ومحاربة الهشاشة والفقر -الفضاء الاجتماعي الذي كانت تحتكره بعض الجماعات الإسلامية والدعوية وفي مقدمتها جماعة العدل والاحسان- ومشاريع اقتصادية كبرى ورهانات التوجه نحو الشراكة مع إفريقيا التي تشهد على دينامية ملكية استطاعت أن تضع المغرب في الواجهة كفاعل إقليمي في إفريقيا وتوجت بالعودة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي.

من خلال التجربة الحكومية لحزب العدالة والتنمية اتضح أنه ظل حبيس الرغبة في إصلاح الإدارة وتوجيه الرأي العام وصعوبة ممارسة الحكم وما يتطلب من واقعية وإملاءات دولية ومحلية وتوازنات مالية صعبة، وفي تناقض تام مع التوجه المعلن والبرنامج الحزبي- بحسب الكثير من المتتبعين - كشف رئيس الحكومة عن شعبوية وتعصب كبيرين في الدفاع عن أداء حكومي وتشريعي هزيل والقيام بإصلاحات هيكلية ووجهت بالكثير من الانتقادات والرفض من قبل الطبقات الاجتماعية، كالزيادة في المواد الاستهلاكية الأساسية، وإصلاح صندوق المقاصة والصندوق الوطني للتقاعد، وظل مشروع دعم الفئات المعوزة والأرامل، ما عرف بنظام الرميد، دون المستوى المطلوب ويواجه صعوبات جمة في تحديد شروط الاستفادة منه.

وعلى غرار باقي الأحزاب الإسلامية، لم تقدم حكومة العدالة والتنمية أية خطة اقتصادية ومبادرات خلاقة لإعادة الثقة والاطمئنان للمواطن المغربي، وسجلت الحكومة أدنى معدلات النمو على خلاف توقعات رئيسها. وفي بداية عملها، فشلت حكومة سعد الدين العثماني في مواجهة الحراك السياسي في الريف، بل وساهمت في تأجيج الأوضاع بعد الحديث عن أجندة الانفصال وتخوين جهات معينة تنشط داخل الحراك.

-طغيان الأعراف الدستورية على الفضاء السياسي المغربي، التي ترجح كفة المؤسسة الملكية على الحكومة والبرلمان وعدم تنزيل صلاحيات رئيس الحكومة المنصوص عليها في الدستور، بل وتخلي بنكيران على البعض منها، وهو ما يعرف بالصلاحيات الاستراتيجية الكبرى التي ترجع إلى الملك وإسناد صلاحيات تقنية للحكومة، زيادة على ذلك تعيين وزراء السيادة في القطاعات الحساسة، كالداخلية والأمانة العامة للحكومة ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وإدارة الدفاع الوطني من طرف الملك، يضعف من مؤسسة رئاسة الحكومة، ناهيك عن عدم خضوع الأجهزة الأمنية والاستخبارية لسلطته.

-عدم تجديد الأحزاب السياسية لنخبها والتمسك بعشوائية التسيير الحزبي والفشل في احترام قواعد الديمقراطية الداخلية، مما يعكس تحول هذه الأحزاب إلى دكاكين لتسويق التزكيات ودعم النخب والأعيان والأسر المستفيدة من الريع الانتخابي. وتعكس مؤتمرات الأحزاب والنقابات واقعا فارقا يعكس هيمنة الزعماء والقادة وتمسكهم بمواقعهم، وخلق نخب خبزية تقتات من موائدهم بعيدا عن الخط النضالي الذي اختطته منذ البداية. فشلت هذه الأحزاب الباهتة في تعبئة وتأطير المواطنين والالتصاق بقضاياهم ومشاكلهم اليومية التي صارت تتدحرج ككرة الثلج لتتحول إلى قنابل موقوتة تهدد السلم الاجتماعي.

هذه بعض من الأسباب التي أدت إلى فصل ما بين الفضاء السياسي والاجتماعي من اتصال، بل وحدوث قطيعة بين الطرفين وانعدام الثقة في الفاعلين السياسيين بشتى أنواعهم وصنوفهم.

الاحتجاج بين الاصلاح وراديكالية المواقف

يشكل الحراك السياسي في الريف محطة فارقة في المغرب لفتح المجال لحوار مجتمعي جاد عن الحلول الممكنة لتجاوز حالة الاحتقان السياسي، وتجاوز منطق رد الفعل لدى النظام السياسي واستعمال المقاربة الأمنية الضيقة، من اعتقال بعض مناضلي الحراك، بدل استخدام مقاربة شمولية تستوعب كل التناقضات في هذا الحراك وتتفاعل إيجابيا مع المطالب في شكلها الاقتصادي والاجتماعي، رغم أن بعض العناصر تحاول استغلال الظروف السياسية الصعبة لتمرير خطابات وإيحاءات تمييزية على أساس الانتماء الثقافي والهوياتي.

الحراك فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار للثقافة المدنية المجتمعية المطالبة بالحقوق والحريات داخل وحدة الوطن واندماج كل مكوناته في بوتقة واحدة، مع احترام القوانين والمؤسسات الدستورية في البلاد والحيلولة دون الانزلاق في اتجاه العنف وتأجيج النعرات الطائفية والعرقية، واعتبار أن قضية الحراك ومشاكله هي قضية كل المغاربة ولا تشكل منطقة الريف الاستثناء الوحيد.

إن الاحتماء بالماضي واعتماد رموز لشخصيات محلية ساهمت في صناعة تاريخ المغرب، كالبطل عبد الكريم الخطابي الذي هو شخصية ريفية مغربية تاريخية قاومت الاستعمار الاسباني وأسست لمفهوم جديد في المواجهة العسكرية، وفي المقابل إهانة الرموز الوطنية والدينية، يكشف عن التأويل المغلوط للحراك لدى بعض قيادييه وعن الأفق الضيق لمنتقدي السلطة السياسية في المغرب، والتشوش الحاصل في الخطاب السياسي الذي ينطلق من العام إلى الخاص بدون قيود أو حواجز، كما لا يميز بين الصلاحيات الدستورية ودور المؤسسة الملكية ومالها من احترام لدى المغاربة، واختصاصات الحكومة وأدوار الحكامة المحلية من انتقاد عمل المجالس المحلية المنتخبة. وهذا ينم مرة أخرى عن افتقار إلى رؤية واضحة وبنيات فكرية دقيقة تحتكم إلى لغة العقل والقانون وتكرس الشعبوية والديماغوجية الفارغة.

حرية التعبير والاحتجاج حق يكفله الدستور شريطة احترام القوانين المنظمة لذلك، ولهذا فالمزايدات السياسوية قد تفقد الحراك السياسي معناه الحقيقي ويصبح مهددا بداء شخصنة الحراك وارتهان سلطة القرار فيه، في حين إن عددا كبيرا من الساكنة يحرص على عدم اندلاع الفوضى ويرفض التحكم في مسار الحراك وتوجيهه ربما إلى مآل لا تحمد عقباه.

عقد اجتماعي جديد

إن ترميم العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمع المدني في خضم الحراك الاجتماعي ليس بالأمر اليسير، وإنما يحتاج إلى إعادة النظر في مقومات عقد اجتماعي جديد بين المواطن والدولة المغربية بكل أطيافها، من خلال بناء أمة مغربية حديثة وجماعة سياسية متجددة متفاعلة ومتضامنة يرتبط أعضاؤها برباط المواطنة وتجمع بينهم إرادة العيش المشترك وتأكيد الكرامة الانسانية وضمان الحريات الفكرية والسياسية، التي هي قاعدة المشاركة في الجماعة الوطنية والشعور بالمسؤولية وممارسة حقوق المواطنة، وهذا الأمر يقتضي التخلي عن كل المقولات الهوياتية الطائفية والدينية التي تمكنت من تشتيت وتمزيق الدول الوطنية في العديد من الدول العربية.

يحتاج المواطن المغربي إلى جرعات حقيقية من الحرية والديمقراطية، ومن فرص تنمية المجال الجغرافي والارتقاء بكل المناطق في شتى المجالات الحيوية والاستفادة من الثروات، والى فرص العيش الكريم والمساواة في الحصول على الوظائف، وتدبير جيد وشمولي للسياسات العمومية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، أي ما يشبه الميثاق السياسي والاجتماعي الذي يحترم إرادة الشعب المغربي بكل أطيافه.

لكن في المقابل، فإن سيرورة الحصول على تعاقد اجتماعي متطور وتحقيق المصالحة بين الدولة المغربية والشارع يتطلب بناء جسور الثقة والحوار بين كل الفاعلين، ويحتاج إلى الاستغناء عن أدوات الاحتواء التقليدية التي ما فتئت الدولة تستعملها من خلال التعويل على المقاربة الأمنية واستخدام كائنات وسيطة تقتات من الصراعات الهوياتية ولا تخدم سوى مصالحها الضيقة.

إن مدخل التنمية البشرية وإعادة الاعتبار للمواطن المغربي وتبني المقاربة التشاركية الحقيقية، والوصول إلى صياغة قرارات بناء على احتياجات المجتمع وقناعاته وتطوره، بإمكانه فتح صفحة جديد من داخل الاصلاح وتصحيح الاختلالات المجتمعية بعيدا عن كل التمايزات الاجتماعية والقبلية العنصرية وتكريس الحوار وفضيلة التسامح والتعايش داخل البلد الواحد.

*خبير في الشؤون الاستراتيجية والأمنية