رأي

عبد الله بوصوف: الشفافية أصل الحكامة والوطن يعلو الوعود الانتخابية

لا داعـي لمقدمات طـلـليـة، ولا داعـي لخطاب يُـصيب الـعواطف في مقتـل، ولا داعـي للكثير من المراوغات غيـر المجديـة أو مساحيـق مُـنتهية الـصلاحية...للـقول إنـنا نعيـش تردي الأخـلاق العامة أو أزمـة تـخليق الحيـاة العـامة.

لـقد تعرض المغرب طـوال تـاريخيـه لأكـثر مـن هــزة اجتماعية وسيـاسية ولـكـوارث طبيعيـة، وفي كل مــرة يخـرج منها أكثـر قـوة وأكـثر صلابـة وأكـثـر تماسكـا، رغـم تفـاوت طبيعـة وخطـورة وانعكاسـات كل تلك الهـزات والمخاطـر.

وقـد كان طبيعيـا أن تُـواكـب الـدولـة بمختلف مؤسساتها كل تـلك الـتغيرات والـمُتغيـرات، لـذلك لاحظنـا أنـه بمجـرد اعتلاء جلالـة الـملك محمد السادس العـرش في يـوليـوز 1999، وفي سياق مشروعه المجتمعي، رسـم حـدود الـقطيعـة مع الـماضي، وأعـلـن عهـدا جـديـدا عـنوانـه "المفهـوم الجـديـد للـسلطة"، مـتبـوعـا بـإصلاحات عـميقة وبتحـديـث للـترسانة الـتشريعية والقانـونيـة لـمجالات احتـرام حقـوق الإنسان وشـروط الـمحاكمة العادلـة والصحافة ومدونـة الأســرة... بـالإضافة إلى إطلاقــه عملية تـشخيص شاملـة همـت الجانب الاجتماعي والاقـتصادي في الـتقريـر الـخمسيني (1956 / 1999). أمـا الجانـب الحقـوقي فـقـد عرف إنـشـاء هيـئـة الإنصاف والمصالحـة وتجـربـة العـدالـة الانتقـاليـة وتـوصياتهـا للـمصالحة مع الـماضي وحـفـظ الـذاكرة الجماعيـة وعــدم تكـرار تـلك الـمـآسي....

وقد أفـضت التحولات المجتمعية والسياسية التي عرفها المغرب إلى قدرة المؤسسة الملكية على فهم منطق التحولات، وهو ما جــاء به خطاب 9 مـارس 2011 من تعاقـد جـديـد وإصلاحات شاملـة وواعـدة تـضمنـتْها فصــول دستـور يـوليوز 2011...واشتهرت فـتـرة مـا بـعـد هــذا الـدستـور بـربـط الـمسؤوليـة بـالمحاسبـة؛ وبمعنى آخـر مـن لـم يكـن موضوعـا للمحاسبـة لا يجب أن يكـون مـوضوعـا للـمسؤوليـة.

وهـذا يحـثـنـا على الـحديـث عن تخليق الحيـاة الـعامة، وبالـضبط عن الحكامة الجيدة المتضمنة في تصديـر دستـور 2011، وكــذا الـعديـد مـن الـفصول والمؤسسات والهيئـات، ويجـرنا أيضا إلى الـحديث عن العـلاقـة الأفـقيـة أو الـعمودية بيـن الـحكومة ومؤسسات الحكامـة!.

وبالـمناسبة فـقـد شغـل موضوع الحكومة والحكامة بـال العـديـد مـن الأكاديميين والمفكريـن بـأوروبـا والـغرب، خاصة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، إذ عـرف تطـورا كبيـرا على المستوى المفاهيمي، كما تـأثـر بـالتـدافـع الإيـديـولوجي داخل منظومـة تحكمها مفاهيـم الـديمقراطية وحقـوق الإنسان والشفـافيـة.

وتضمنت العـديـد من الـدراسات محاولات لإيجاد تعريف لمصطلح الحكامة وخطوط تماسها مع الحكومة، في إطـار تطـور مفهـوم الـديمقراطية الـتمثيليـة والـديمقراطية الـتشاركيـة والـمسؤولية السيـاسيـة والـمسؤولية الإداريـة.

وقد استـقـر الأمـر بتبني اللجنة الأوربية في يـوليوز 2001 لمضامين "الكتاب الأبيض" الخاص بالحكامة وعـلاقاتها بيـن المؤسسات، سـواء على المستوى العام أو المستوى المحلي. وسيُحـدد "الكتاب الأبيض" خمسة مبادئ للحكامة، وهـي على الـتوالي: الشفافية (الانفتاح) والمشاركة والـفعـاليـة والمسؤوليـة والـملاءمة...

ومن بيـن التعاريف المفاهيمية لمصطلح الحكامة أنها طريقة تـدبيـر السياسات العمومية والموارد الاقتصادية لـتحقيـق الـتمنية الاجتماعية. وهُــنا نستحضر رغبة المشرع المغربي في ترسيخ مفهوم الحكامة من خلال دسترة العديد من مؤسسات الحكامة الجيدة من الفصل 161 إلى 170 أو دسترة المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي في الفصل 151 من جهة، وكــذا من خلال وزارة الشؤون العامة والحكامة كجهاز تنفيذي تابع لرئاسة الحكومة من جهة ثانية؛ والـتي يحـدد اختصاصاتها المرسوم الصادر في 20 يوينو 2013، وكذا المرسوم الصادر في 13 نونبر 2013 الخاص بتفويض بعض الاختصاصات إلى وزيـر الحكامة.

وهي اختصاصات تـرفع من قـوة وشـأن هـذه الوزارة، حتى يمكننا المجازفة بالقول إنـه يمكن اعتبارها مكتـب الـدراسات ومطبـخ كـل السياسات العمومية التابع لرئاسـة الحكومة، كما أنها مكلفة بتتبـع عمليات تنفيـذ كل المشاريع والسياسات العمومية حسب المرسوم نفسه، وتُـعتبر المُخاطب أمـام مجموعة الـبنك الـدولي.

ولا تقوم للحكامة قائمة إلا في أجواء الشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهـو بالفعل ما حاول المشرع المغربي الترسيخ له من خلال اعتبار مجالس حقوق الإنسان والوسيط ومجلس الجالية والمناصفة والسمعي البصري والمنافسة والنزاهة وضد الرشوة والتربية والتكوين والشباب والعمل الجمعوي...مجالس وهيئات للحكامة الجيدة والتنمية المستدامة.

إننا نـرى أن كل هيئـات الحكامة يجب أن تكـون مـؤسسات شريكـة للحكومة في القرار السياسي وفي تسطير السياسات العامة مع اختـلاف بين المسؤولية السياسية والإداريـة، لـكـن الواقـع يوحي بعكـس هــذا، وهو ما يطرح بكل موضوعية الأسئلة والإشكـالات الآتيـة: إلى أي مدى تستشير الحكومة على سبيل المثال هيئات الحكامة في قراراتها السياسية أو في تنفيذ بـرامجها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبـيئيـة؟ وهل تعتبر الحكومة هيئات الحكامة غريما سياسيا ومنافسها في السلطة؟ وما مدى تنسيق وزارة الشؤون العامة والحكامة مع هيئات تشترك معها في الاسـم؟.

إن عولمة الاقتصاد والمعلومة تجعل من إشـراك هيئات الحكامة والمجتمع المدني، إلى جانب مؤسسات الحكومة في التخطيط والتنفيذ والمتابعة، علامـة للـنضج الـسياسي للحكومـات، مع أخـذ مسافـة بيـن المسؤولية السياسية والإدارية؛ بل الـتطبيـق الـسليم لـمقتضيات الـدستور كأسمى قـانون في البلاد. ومن جهة أخرى ألا يمكن اعتبار عدم الإشراك هذا سلوكا خارقا للدستور وتغييبا للبعد المؤسساتي لمؤسسات الحكامة باعتبارها آليات دستورية لتقويم السياسات العمومية وتوجيهها لصالح البلاد؟.

ومادام الـشيء بالشيء يُـذكـر، نتساءل بخصوص تعطيـل بـرامج وأوراش كبـرى ليـس في الـحسيمة فـقـط، بـل في غيرهـا أيضا، ونُـسائـل وزارة الشؤون العامة والحكامة في مجالات اختصاصاتها في "وضع آليات لتتبع وتقييم مدى نجاعة السياسات والبرامج الحكومية ودرجة تكاملها وانسجامها والتقائيتها بتنسيق مع القطاعات والهيئات المعنية..."؛ فهل يتطلب الأمر مثلا إصدار "كتاب أبيض" يتضمن العلاقات العمودية والأفقية وخطوط التماس والتعاون بـين هيئـات الحكامة والحكومة، ويُـحدد مسافات اختصاص المجتمع المدني والمواطن في مسلسل تحقيـق الـتنمية المستدامة، وحتى لا يـتكرر مشهـد تعثـر مشاريع وأوراش تنموية واقتصادية كبـرى بسبب انفـراد الحكومة بتبني وتنفيـذ سياسات عمومية بعيـدا عن إشــراك هيـئات الحكامة والمجتمع المدني؟.

بعد جـرد بعض صُور رغـبة الـمشرع في اعتنـاق "فلسفة الحكامة" كبـوابـة كبيـرة لـتخليـق الحيـاة العامة، وبعـد الـتأمل في الـفقرة الثـانية من الفصل 136: "يـرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ الـتدبير الحر وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم والرفع من مساهمتهم في التمنية المندمجة والمستدامة..."، نـؤكـد أن طريـق الـتنمية المستدامة جهويـا أو محليـا يــبـدأ أولا بـالتكامل والتضامـن بيـن أجهزة الحكومة وهيئـات الحكامة والمجتمع المدني والقطاع الخاص... وما يـطبع ذلك من شفافية وفعالية وملاءمة وتحمل المسؤوليات، ســواء السياسية أو الإدارية... ولـيس اللـعب الـمنفـرد، لأن مصلحة الـوطـن والمواطنين هي أكبـر بكثيـر مـن الرؤى الـذاتية أو وعـود حمـلات انتخـابيــة...!!