قضايا

مدراس الأمس واليوم..

عبد الصمد بن شريف

بحنين جارف وإحساس استثنائيّ أتذكر دفاتري وكتبي الأولى ومحافظي وأساتذتي، أستحضر بحميمية خاصة تلك الصباحات التي كنت أغادر فيها منزلنا القروي، متأبطا حزمة من الأحلام ومتسلحا بجرعة وافية من الحماس والرغبة في الانتصار على مظاهر التهميش والعزلة والنسيان والإقصاء والحرمان، التي كانت تطوق قريتنا المرمية بين جبال الريف.

كانت المسافة الفاصلة بين المنزل والمدرسة تبدو هينة بالرغم من طولها، والمسالك التي كنا نعبرها ونحن صغارا كانت سجادا من حرير بالرغم من وعورتها، وبالرغم من مخاطر الطبيعة وغاراتها المفاجئة وهجوماتها غير المتوقعة..

كنا نتحدى كل شيء، وعندما كان الوادي الكبير يصل إلى منتهى الجنون والهيجان مندفعا ومقتلعا كل ما يجده أمامه كانت الأسر تعلن حالة استثناء واستنفار، وتظل معتصمة وصامدة إلى أن يهدأ وينخفض منسوبه لتشرع بعد ذلك في نقلنا من ضفة إلى ضفة..

عندما أتأمل هذا المشهد بالرغم من توغله عميقا في الزمن، أدرك حجم الرهان الذي كانت تعقده علينا أسرنا، كانت ترى في تمدرسنا وتعلمنا صمام أمان، وطريقا للخلاص من وضع لم يجدوا وسيلة لتغييره، خاصة أن سنوات الرصاص الفتاك والجمر الحارق أنتجت ثقافة اللامبالاة والإهانات والتحقير، لم يكن لدينا من شروط العيش سوى إرادة الحياة، ومع ذلك كافحت الأمهات وناضل الآباء من أجل أن يشهدوا ذات عمر أن أحد أبنائهم تمكن من الوصول إلى بر الأمان، بعد أن حصل على وظيفة.

أما الفتيات فكان حظهن تعسا إلى أبعد الحدود، حيث لم يكن ممكنا مطلقا في تلك السنوات السماح لهن بالذهاب على المدرسة نظرا لبُعد المسافة وصعوبة الطريق، ونظرا لطبيعة القيم التي كانت سائدة في المنطقة وظروف العيش المعيقة لكل تحول إيجابي..

ونتيجة لتلك الوضعية، حرمت الآلاف من الفتيات من حق أساسي وجوهري، ألا وهو الحق في المعرفة، وكان بمقدور المئات أن يصبحن طبيبات أو مهندسات أو مدرسات أو موظفات في مؤسسات وقطاعات مختلفة...

لم تكن لدينا مكتبات أو فضاءات للقراءة والترفيه، لم تكن لدينا أية إمكانية لمشاهدة التلفزة واكتشاف عوالمها السحرية ولو أنها كانت تقدم برامجها بالأسود والأبيض، لم تكن لدينا دروس للتقوية أو معاهد أجنبية، كل ما كان يوجد بحوزتنا محفظة متهدلة، بداخلها كتاب بالعربية وآخر بالفرنسية إلى جانب المصحف الكريم، ودفتر أو اثنان على الأكثر. كان هذا كل ذخيرتنا وسلاحنا في ميدان المعرفة وحرب التحصيل، وكم كنت أحلم بالحصول على قصص ومجلات وكتب باللغتين العربية والفرنسية، لكن ذلك كان من باب المستحيل، فكان البديل والملاذ هو أن أقرأ وأستثمر إلى أقصى الحدود كتاب المطالعة بالعربية وكتابا آخر بالفرنسية شكل مصدرا غنيا ونفيسا لإثراء فرنسيتي.

ما نعشيه اليوم شبيه بنار فتنة جماعية تلتهم ألسنتها عددا مهما من الأسر المغربية ،فتنة من نوع خاص، لا هي حرب قائمة على الخطط العسكرية والإستراتجية، ولا هي منازلة حامية تستعر وتشتعل بسبب حجم ونوعية الأسلحة المستعملة فيها، إنها مع ذلك تشبه الحرب في كثير من تفاصيلها ومواصفاتها، حرب فرضت على جزء من المغاربة الذين فقدوا الثقة في مدرستهم العمومية، وركبوا موجة البحث عن الجودة والتكوين الجيد والتأطير الحديث في مدارس خاصة، وهم في اختيارهم هذا، متفاوتون من حيث المنفعة والضرر.

هناك أسر تنتمي إلى الطبقة الوسطى، بالكاد تغطي مصاريف الحياة اليومية، وتتصارع من أجل البقاء مستورة بدون اختلالات ومآس لا قدر الله؛ لكنها وجدت نفسها تحث تأثير جاذبية وسلطة المدرسة الخاصة، وفضلت أن تتقشف وتقلص وتعقلن النفقات اليومية، بغية تغطية تكاليف تدريس أبنائها وبناتها، وهي في هذا الاختيار وجدت نفسها مع شريحة من الأسر المغربية، لا تجد مشكلا أو صعوبة في تحمل الأعباء والفاتورات التي تشهرها المدارس الخاصة.

في الرباط والدار البيضاء وغيرها من المدن الكبرى، تتحول المدارس الخاصة إلى ما يشبه مصحات خاصة، لا تؤمن إلا بالمال والدفع المسبق، ولا علاج قبل إظهار الشيك أو الأوراق النقدية، وصارت شركات ربحية بامتياز.

المشهد مستفز للكثير من المغاربة؛ لكنهم يقبلون ويتحملون على مضض هذه الحرب المعلنة ضدهم، إشباعا لرغبات وغايات لا نفهم الدوافع الكامنة خلفها، حرب مادية تقصف الجيوب وحرب رمزية تخلق لدى الطفل تناقضا وصراعا وارتباكا في هويته، فهو في هذه المدارس أشبه بجندي في ثكنة لغوية عليه أن ينضبط لقواعد المؤسسة وتقاليدها، فلا حديث ولا وثيقة إلا باللغة الفرنسية، بل أكثر من هذا تلحظ المواطنين الذين قذفت بهم ظروفهم وتطلعاتهم إلى هذه المدارس، وكأنهم في يوم حساب، فهم يتوسلون ويتمسحون بمسؤولي هذه المدارس لتسجيل أبنائهم.. وبكثير من الإذلال والعجرفة والانتفاخ والإحساس بالعلو، تشن إدارات هذه المدارس حروبا نفسية على من يقصدها، وعليك أن تنتظر سنتين أو ثلاث سنوات، لتحظى بقبول أو موافقة على التسجيل، وكأنك ستحجز مقعدا في الجنة.

يحدث هذا في الوقت الذي تكاد فيه أكتاف بناتنا وأبنائنا تنكسر، بسبب ثقل الحقائب التي يحملونها وهي ممتلئة بالكتب والدفاتر والقصص بكل اللغات تصوروا تلميذا في المستوى الثاني لم يتجاوز عمره 7 سنوات عليه أن يشتري أكثر من عشرين دفترا وكتبا كثيرة من مختلف الأحجام.

أما مشاريع إصلاح التربية والتعليم، فقد فاقت كل تصور ممكن، واختبار جدوى وجودة المناهج والمقررات صار تمرينا مغربيا بامتياز، وتنظيم المناظرات وتشكيل اللجان وصياغة التقارير والتوصيات بشأن التعليم تحول إلى ظاهرة مغربية، والبحث عن المسالك والمعابر والحوامل والركائز والجسور سعيا إلى مدرسة عمومية ذات مصداقية وجودة أضحى تجربة سيزيفية تهدد وجود هذه المدرسة نفسها، والمخططات الاستعجالية والوقائية وحملات التلقيح من الأمراض الفتاكة وركام التقارير المنجزة من لدن مؤسسات معنية بالموضوع لم تجد نفعا في تقديم تشخيص دقيق أو وصفة قادرة على تحصين هذه المدرسة من كثير من العلل، وتحميها من الفيروسات المدمرة وفي مقدمتها فيروس فقدان الثقة في هذه المدرسة.

وعلى غرار المصحات الخاصة التي حلت محل المستشفيات العمومية مستنزفة جيوب المواطنين، حلت المدارس الخاصة محل المدرسة العمومية، وأصبح كل من تتوفر له أية أمكانية حتى ولو كانت ضعيفة، يفكر في المدرسة الخاصة مهما كانت الكلفة والمكابدة، وحتى الذين يدرسون في المدرسة العمومية وهم الأغلبية إذا لم أخطئ حسموا أمرهم وقرروا تسجيل بناتهم وأبنائهم في المدارس الخاصة، فهم وبناء على صورة سلبية منتشرة في المجتمع عن المدرسة العمومية لا يثقون في هذه الأخيرة، ويعتبرون مناهجها وبرامجها منتجة للفشل والضحالة واللافعالية، وتبعا لقناعتهم فهم يفضلون التقشف والمعاناة والضغوط اليومية، على أن يتوجه أبناؤهم إلى مدرسة عمومية تنم عن التجهم والخصاص والإحباط وانسداد الآفاق.

إن الحديث بهذه النبرة عن فشل المدرسة العمومية نابع من الخوف على أن يفقد مجتمعنا فضاءات صناعة المواطنة وإنتاج المعرفة؛ لأنه بكل بساطة لا يمكن أن نبني مشروعا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا بدون مدرسة عمومية مؤهلة ومواطنة وفعالة، ولا يمكن أن نزرع بذور الحداثة والعقلانية والديمقراطية ونبني المؤسسات ونضمن اشتغالها السليم بدون مدرسة عمومية يثق فيها المغاربة وتغريهم بجاذبية عرضها التربوي وبمصداقيتها العلمية.

أما أبناء الطبقات الميسورة المرتبطة اقتصادياً وسياسياً واجتماعيا باختيارات تنتج وتعيد إنتاج جملة من الاختلالات التربوية والفوارق الاجتماعية، فإنهم لا يواجهون مشاكل وإكراهات تربوية أو لغوية من هذا القبيل؛ لأنهم ببساطة يدرسون في مدارس البعثات الأجنبية، والفرنسية تحديداً، وبعد ذلك يواصلون تعليمهم في المعاهد والجامعات المؤدى عنها هنا في المغرب أو يتكونون في مؤسسات تعليمية أوروبية وأمريكية، وعندما يعودون إلى المغرب متوجين بشهادات عليا في مختلف التخصصات يجدون المناصب في انتظارهم، لأنه تمت تهيئتهم أصلا ليتولوا تدبير الشأنين العام والخاص، ولا يقض مضجعهم شبح البطالة كما هو الشأن بالنسبة إلى نظرائهم الذين درسوا في مؤسسات التعليم العمومي..

إن الذين يظهرون اليوم قلقا على المستقبل اللغوي في المغرب، ويتألمون لما يلاحظونه من تيه وشيزوفرينا لدى المغاربة في قطاع التعليم هم من يجد لذة استثنائية في التحدث باللغة الفرنسية، وعندما يرافعون من أجل استعمال الدارجة المغربية، فإنهم ينافقون، فهم أصلا لا يتحدثون بها، أو يعتبرونها لغة غير راقية وغير حية، ومن ثم فهي لا تليق بهم ..

والغريب في الأمر هو ماذا يمثل هؤلاء، أشخاصا ومؤسسات، داخل المجتمع؟ ولماذا يختزلون أزمة التعليم في الجانب اللغوي فقط؟ وهل يملكون من الشرعيات ما يجعلهم يتبنون طرح إشكالية اللغة في المغرب؟