رأي

سعيد بوخليط: التلميذ أو الأستاذ؟ هي المنظومة المعطوبة!

توالى خلال المدة الأخيرة بث سلسلة فيديوهات موثقة لما باتت تعيشه حجرات المدرسة المغربية من وقائع يوميات صدام عنيف سيزيفي بين المدرسين والتلاميذ؛ سواء أكان مصدر الواقعة هذا الطرف أو ذاك؟.

وضع سيئ جدا، مشين، يستحق التنديد بكل اللغات؛ يمثل في حقيقة أصوله العميقة، الضاربة في الجذور، مجرد حصيلة بنيوية لثقافات عنف مادي ورمزي مارسته بكل اللغات أيضا، المنطوقة والإيمائية، مرتكزات منظومتنا التعليمية المتآكلة تباعا، في حق الأستاذ والتلميذ؛ ثم كل ما يمت بصلة بعيدة أو قريبة إلى مضمون قصديات المدرسة.

هكذا طفا حاليا نحو السطح مخزون وترسبات الأغوار، منسجما تمام الانسجام مع أولياته المعطوبة، ويستحيل أن يصير الأمر على نحو مختلف؛ من ثم استمرار أوضاع التعليم ضمن المنحدر السيئ ذاته وأكثر، إذا لم تؤمن جميع الأطراف، لاسيما الموكولة إليهم قرارات الشأن العام، بضرورة الوقوف والتريث قصد التفكير بصدق وجدية ونكران ذات، كي يحدث التحول نحو تغيير نوعي في المنظومة، ثم إنقاذ ما تبقى للإنقاذ. كتب الأستاذ عابد الجابري منذ بداية السبعينيات: "ثمة، إذن، في المغرب الراهن، مشكل مزمن، مشكل يحتل الصدارة ضمن مجموعة المشاكل الأخرى التي لم تعرف بعد طريقها نحو المعالجة الجدية، والحل الصحيح…إنه، بلا نزاع، مشكل التعليم".. (أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب، دار النشر المغربية، ص 139).

لا مناص في كل حديث بهذا الخصوص عن إعادة اجترار الحقيقتين الكلاسيكيتين البديهيتين التاليتين:

*يقتضي بناء التعليم وفق أسس سليمة أصلا بناء مجتمعيا متكاملا على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والإعلامية والفنية؛ تتبلور ممكناته جميعا وفق خطوط متوازية واحدة.تبتغي أيضا بؤرة واحدة لا غير: ترسيخ قيم مجتمع المواطنة الحقة، المشبع بالديمقراطية ومرتكزات الحداثة. إنه مجتمع المدرسة، ونتاج المدرسة، والأفق الجدير وحده بتألق المدرسة. يقول الجابري: "ثمة إذن مشكل مزمن في المغرب، هو بلا نزاع مشكل التعليم…والمشاكل، أيا كان نوعها، ليست بنت ساعتها، بل هي نتيجة عملية تطور ونمو: نمو الأجزاء في إطار نمو الكل، ونمو الكل من خلال نمو الأجزاء..معنى ذلك أن المشاكل، أيا كانت، لها تاريخ؛ ومن ثمة يغدو الفهم الصحيح لها إنما يبدأ بفهم تاريخ مولدها ونشأتها، وتتبع مراحل نموها وتطورها. والحق أن المعطيات الأساسية لهذا المشكل يصعب فهمها، إن اقتصرنا على النظر إليه من خلال الصور التي يكشف فيها عن نفسه من وقت لآخر" (نفس المرجع، ص5).

بكل تأكيد، الأستاذ أو التلميذ مجرد تحققين إيجابا أو سلبا عن مدى غلبة النزوع الإيجابي أو السلبي للسياق العام المؤطر لطبيعة رؤيتهما للعالم، ومعاني ذلك؛ ثم نوعية الأجواء والظروف التي تكتنفهما .هكذا، لم يعد بالضرورة حاليا الأستاذ أستاذا، كما رسخ التقليد الأكاديمي دلالة الكلمة؛ حيث المدرس مربيا وعارفا وباحثا وصادقا وحكيما وذكيا ورصينا وقدوة ومثالا ونموذجا وملهما ومرجعية، إلخ .هذه صورة تهشمت، وتناثرت شظاياها، ثم حمولة استنزفت وتداعت هالة بقاياها منذ أمد بعيد؛ وقد تأدجلت تضليليا ضمن مواقع صراعات الهيمنة على الفضاء العمومي، عبر السموم النفاثة لحروب النكتة الخبيثة: من مركزية أستاذ الستينيات والسبعينيات، كإحدى الحلقات المفصلية للبورجوازية المتوسطة، المتمتع بحظوة مادية ورمزية واعتبارية، إلى موقع ثان مفارق تماما للأول؛ جسّدها دلاليا التحوير المورفيمي اللئيم: "كُعْلِّيمْ"، وهو طيف وفق تحديد السياق الجديد، يعيش فقرا وشحا ماديا، وبالتالي نمطية ذهنية وتبلدا في الحواس والتطلعات، بحيث لا يتجاوز طموحه ملاحقة دريهمات شهرية لضمان قطعة خبز؛ منحدرا من رغد وكاريزما الطليعة المجتمعية، بسياقاتها الإغريقية على مستوى التأمل الفكري وتوجيه المجتمع نحو المنظومات الطوباوية. هكذا، دأبت قصدا وعمدا ماكينة التقويض الرمزي، فأضاع الأستاذ المغربي منهجيا كل تراثه، كي ينتهي حاليا إلى الوضع المفارق بين الصفة والممارسة، المفهوم والحقيقة، المخيال الشعبي ومجريات الواقع….

إن القطع مع يوميات مجتمع الفرجة والاستعراض الضحل الذي يلاحق ممارسات الابتذال والغباء، وضمن ذلك مشهد التفكه على انهيار قيم المدرسة؛ يحتم في المقابل الانتصار بكل قوة لمجتمع التأمل العظيم. سعي لا يتحقق سوى بالاستمالة من أجل تعضيد مشروع مجتمعي تشكل المدرسة بكل تأكيد قلبه النابض، وهاجس أبنائه المطلق .غير هذا، فالمنظومة بصدد تخصيب متواليات التآكل، والقادم سيكون أكثر سوءا. يقول الجابري: "لم يعد "التوفيق" ممكنا، ولا "تسكين" المشاكل مجديا..إن الاستمرار في هذا أو ذاك ليس فقط مضيعة للوقت، بل هو هروب من الواقع، وتكريس لأسباب الفشل والضياع" (نفس المرجع، ص 140).